عندما أصر الرئيس الأمريكى الأسبق فرانكلين روزفلت على رفض المطالب البريطانية، التى قادها رئيس الوزراء البريطانى الأسبق ونستون تشرشل، بالانغماس فى الحرب العالمية الثانية والانضمام إلى قوات الحلفاء، لم تجد المخابرات البريطانية بدا من تسريب معلومات مغلوطة إلى دول المحور، وعلى رأسها اليابان، حول نية الولايات المتحدة الهجوم على الأسطول اليابانى فى المحيط الهادئ، مما دفع القوات اليابانية إلى ضرب الأسطول الأمريكى "بيرل هاربر"، مما أدى إلى مقتل أكثر من 2400 جندى أمريكى لتتكبد الولايات المتحدة واحدة من أكبر الخسائر العسكرية فى تاريخها، لتنضم بالفعل إلى قوات الحلفاء فى ديسمبر 1941، أى بعد أكثر من عامين من بداية الحرب، لتكون بمثابة البداية فى سلسلة من الحروب التى خاضتها الولايات المتحدة باعتبارها القائد للمعسكر الغربى، مازالت لم تنته حتى الآن.
ولعل القرار الذى أصدره الرئيس الأمريكى دونالد ترامب مؤخرا بالانسحاب العسكرى من سوريا، يثير العديد من التساؤلات حول ما إذا كانت الخطوة بداية العودة إلى الحياد العسكرى الذى آثره روزفلت منذ حوالى 77 سنة، رغم تعاطفه مع قوات الحلفاء، قبل المؤامرة الأوروبية، التى قادتها بريطانيا، لإجبار الولايات المتحدة على الانغماس فى مستنقع الدماء الذى مازالت تعانى منه الولايات المتحدة لحماية المصالح الغربية فى العديد من مناطق العالم، خاصة وأن الولايات المتحدة تكبدت العديد من الخسائر المادية والبشرية جراء تلك الصفقة التى تجلس فيها واشنطن على مقعد القيادة للغرب، مقابل تقديم الحماية لأوروبا، ليس فقط على المستوى العسكرى، وإنما امتدت إلى الحماية الاقتصادية عبر العديد من الاتفاقات التى أبرمتها الولايات المتحدة مع حلفائها فى أوروبا لتمنحهم مزايا تقدر بالمليارات على حساب المواطن الأمريكى.
روزفلت وتشرشل
صفعات متتالية.. ترامب يواصل دبلوماسية "الانسحاب"
ويمثل حديث الرئيس ترامب حول ضرورة أن يقاتل الآخرون فى سوريا امتدادا لسياسات أخرى تبنتها الإدارة الأمريكية الحالية منذ صعودها إلى البيت الأبيض، قامت فى الأساس على أن تتنصل الولايات المتحدة من الالتزامات التى وضعت على كاهلها منذ حقبة روزفلت، أن يتحمل الأوروبيون مسئولية أنفسهم، ليس فقط على المستوى العسكرى، ولكن أيضا على الجانب الاقتصادى، وهو ما بدا واضحا فى التلويح الأمريكى المتواتر بالانسحاب من حلف الناتو، وكذلك إلغاء المزايا التجارية التى منحتها واشنطن لحلفائها لعقود طويلة من الزمن، بالإضافة إلى التحليق بعيدا عن المواقف الأوروبية تجاه العديد من القضايا الدولية البارزة، أبرزها الاتفاق النووى الإيرانى، وكذلك اتفاقية باريس المناخية، واللتين انسحبت منهما الإدارة الأمريكية فى الأشهر الماضية.
ترامب وحلفاءه الأوروبيين
وهنا تعد دبلوماسية الانسحاب التى تبناها الرئيس ترامب، تجاه العديد من الملفات الدولية والإقليمية بمثابة صفعات متتالية لحلفائه، الذين اعتمدوا على الثقل الأمريكى سواء سياسيا أو عسكريا، أو اقتصاديا لتحقيق المكاسب، بينما يتكبدون فى المقابل أقل قدر ممكن من الخسائر، فى حين يحاول الاحتفاظ بسطوته عبر إجبارهم للخضوع إلى مواقفه تجاه مختلف القضايا الدولية، وهو ما يبدو واضحا فى الموقف الأمريكى من إيران، ففى الوقت الذى ترفض فيه دول أوروبا غربية الانسحاب الأمريكى أحادى الجانب من الاتفاق النووى، الذى أبرمته القوى الدولية مع طهران برعاية سلفه باراك أوباما، وبالتالى العقوبات الأمريكية المترتبة على تلك الخطوة، إلا أن الحكومات الأوروبية لم تحرك ساكنا تجاه قرارات الشركات الأوروبية التى قررت الانسحاب من السوق الإيرانية، فى انتصار دبلوماسى كبير للرئيس الأمريكى على حلفاءه.
"أمريكا أولا".. استرضاء المؤيدين أولوية ترامب
ولو نظرنا إلى أهداف الخطوة التى اتخذها ترامب، نجد أنها تبدو متطابقة مع رؤية روزفلت الرافضة لخوض غمار الحرب العالمية الثانية، قبل ما يقرب من ثمانية عقود من الزمان، فالرئيس الأمريكى الأسبق كان يرى أن الانغماس فى المعركة ضد الحلفاء لن يروق للقطاع العريض من الأمريكيين، وهو ما يتوافق مع الرؤية التى يتبناها ترامب منذ بداية حقبته، فى إطار الشعار الذى رفعه فى حملته الانتخابية "أمريكا أولا"، وهو ما يعنى أن مسألة النفوذ الأمريكى ربما لا تمثل أولوية كبيرة، إذا ما قورنت بالخسائر التى تتكبدها الولايات المتحدة جراء انغماسها فى الحروب المندلعة فى مناطق تبتعد ملايين الكيلومترات.
شعار أمريكا أولا أولوية لدى الرئيس الأمريكى
وتمثل التهديدات التى تتلقاها القوات الأمريكية فى سوريا دافعا قويا، فى ضوء احتمالات قيام تركيا بشن هجوم عسكرى لاستهداف وحدات حماية الشعب الكردية، فى منطقة الشمال السورى، بالإضافة إلى كابوس استهدافهم من قبل الميليشيات الإيرانية المتواجدة على الأراضى السورية، بمثابة الفرصة التى اقتنصها الرئيس الأمريكى لاتخاذ الخطوة التى طالما ألمح لها منذ عدة أشهر، لاسترضاء مؤيديه، الذين يبقون الداعم الأكبر لمثل هذه الخطوة فى المرحلة الراهنة.
انقلاب حزبى.. ترامب يدحض نظرية "قوى الشر" التى أرساها بوش
إلا أن التحدى الذى أعلنه ترامب، لا يقتصر على حلفاءه الأوروبيين، والذين يشكلون أغلبية التحالف الدولى فى سوريا، باعتبارهم المتضرر الأكبر جراء القرار الأمريكى، ولكنه يمتد إلى الدائرة السياسية الضيقة المحيطة به فى الداخل الأمريكى، سواء المتمثلين فى خصومه الديمقراطيين، الذين يرون هذا القرار انقلابا جديدا على إرث الرئيس الأمريكى السابق باراك أوباما، أو حتى صقور حزبه الجمهورى، خاصة وأن القرار كان مفاجئا حتى لمسئولى الإدارة الأمريكية، وهو ما بدا واضحا سواء فى التصريحات التى أدلت بها وزارة الخارجية الأمريكية، فى أعقاب الإعلان عنه، والتى دارت حول عدم معرفتها به، وكذلك استقالة وزير الدفاع الأمريكى جيمس ماتيس، والذى يبدو رافضا للانسحاب من سوريا.
ترامب يواصل الانقلاب على سياسات أسلافه
وهنا يصبح القرار الأمريكى بمثابة انقلابا صريحا على مبادئ الحزب الجمهورى، والذى يؤمن بضرورة التدخل الأمريكى، لدحض نفوذ ما سبق وأن أسماهم الرئيس الأسبق جورج بوش الإبن، والذى ينتمى لنفس الحزب" بـ"قوى الشر"، وعلى رأسهم إيران، وبالتالى فكان انتقاد زعماء الجمهوريين، وعلى رأسهم ليندسى جراهام وماركو روبيو، للقرار الذى اتخذه ترامب لا يقل ضراوة عن تلك التى كالها له خصومه السياسيين.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة