لم يكن غريبا أن يختار الرئيس الفرنسى الشاب إيمانويل ماكرون تونس لتكون محطته العربية الأولى بعد صعوده إلى قصر الإليزية، فباريس التى استعمرت تلك البقعة فى شمال أفريقيا لأكثر من سبعة عقود فى القرن الماضى وجدت أنه من واجبها أن تمد لها يد العون فى وقت المحنة التى تمر بها، فمن تابع الـ48 ساعة التى قضاها الرئيس الفرنسى فى تونس سيجد أنها بمثابة زيارة "إنقاذ" لبلد تكاد تغرق من تراكم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتلاحقة منذ ثورة 2011.
ومنذ أن وطأت قدما ماكرون – الذى يصطحب معه وفد رجال أعمال يضمّ 20 مؤسّسة فرنسية فى قطاعات الصّناعة والطّاقة والبنية - الأراضى التونسية حتى بدأت المنح والقروض تُغدق على الحكومة التى تعانى مأزق إقتصادى، فقبل تلك الزيارة بأيام كانت البلاد تعيش على وقع احتجاجات اجتماعية من جراء سوء الأحوال الإقتصادية، مما دفع المراقبون الى التوقع أن صانع القرار فى قصر قرطاج لجأ الى المستعمر القديم لعله يُنقذ البلاد من السقوط فى الهاوية.
البرلمان التونسى يستقبل ماكرون
وأعلنت باريس أنها ستمنح تونس قرضا بقيمة نحو مئة مليون يورو لإصلاح المؤسسات العامة التونسية وستحول 30 مليون يورو من الديون إلى استثمارات لتضاف إلى 60 مليون يورو تم تحويلها فى يناير 2016، وتبلغ قيمة الدين العام التونسى لفرنسا نحو مليار يورو، وكشف الرئيس الفرنسى إلى أن بلاده تلتزم بتوفير 1.2 مليار يورو فى إطار دعم التجربة التونسية، كما ستُخصص وكالة التنمية الفرنسية 50 مليون يورو لمساعدة رواد الأعمال التونسيين خلال السنة الجارية والسنة القادمة.
ووقع الرئيسان السبسى وماكرون 8 اتفاقيات تتمثل أهمها فى إعلان مشترك حول أولويات الشراكة التونسية الفرنسية، واتفاقية تعاون ثنائى فى مجال مكافحة وتمويل الارهاب والتطرف، وإنشاء صندوق لدعم التنمية والمؤسسات والمبادرات الشبابية فى تونس، وإنشاء جامعة تونسية فرنسية خاصة بإفريقيا والمتوسط، ومنح خط تمويل لصالح المؤسسات الصغرى والمتوسطة والصناعات الصغرى والمتوسطة واتفاقية تمويل لدعم مشروع إصلاح حوكمة المؤسسات العمومية.
الرئيس الفرنسى ايمانويل ماكرون
ولم يتردد الرئيس ماكرون فى الإعلان علنا أن بلاده ستقف خلف تونس حتى تقف على قدميها من جديد، حيث قال الرئيس الفرنسي فى جلسة عامة بالبرلمان التونسى أن بلاده ستقف بجانب تونس وستقوم بما في وسعها من أجل ارساء الأمن والاستقرار في البلاد،كوقوف الأخ بجانب أخيه، وفق تعبيره، مشيرا الى أنّ فرنسا تعي جيدا الصعوبات التى تعانيها تونس وخاصة البطالة، وقال: ''هناك تاريخ مشترك بيننا وهناك لغة بيننا وهى مصدر قوة لتونس، فرنسا ستساعد تونس ليس كصديق بل كشقيق".
وإذا كانت المعونات الاقتصادية هى العنوان الأساسى لزيارة ماكرون الأولى لتونس فإن هناك رسائل سياسية تم توجيهها بين طيات كلمات الرئيس الفرنسى ولقاءاته، حيث كان لافتا غياب إخوان تونس عن خريطة لقاءات الوفد الفرنسى منذ أن بدأت وحتى انتهت، وهو الأمر الذى أثار جدلا كبيرا فى الداخل التونسى حيث أن حركة النهضة الإخوانية هى شريك فى الحكم لحزب نداء تونس الذى يرأسه الرئيس التونسى الباجى قائد السبسى، وممثلة فى الحكومة والبرلمان.
نواب البرلمان التونسى يستمعون لخطاب ماكرون
هذا التجاهل من الجانب الفرنسى يوحى بوجود فتور بين الحاكم الجديد لقصر الإليزية وإخوان تونس، وما يدعم ذلك الإتجاه هو أن زعيم الحركة راشد الغنوشى لم يقوم بزيارة باريس منذ آخر مرة له فى يونيو 2016 على الرغم من جولاته الخارجية التى لا تتوقف، وهى الزيارة التى اصطحب فيها وفدا من الحركة واستضافته رئيسة لجنة العلاقات الخارجية فى البرلمان الفرنسى إيليزابيت قيقو، وألقى الغنوشى كلمة حول الانتقال الديمقراطى فى تونس والتحديات التى تواجهها بلاده فى تلك المرحلة، وشدد على عمق العلاقات التونسية ـ الفرنسية، وأهمية العمل على تقويتها على الأصعدة المختلفة.
ليس هذا فحسب بل إن الرئيس الفرنسى وجه عدد من الرسائل حول ضرورة تدعيم الحكم المدنى فى تونس وجهود الرئيس السبسى فى هذا الإطار، ففى البرلمان أكد ماكرون أن السبسى اتخذ قرارات عديدة تؤسس لدولة مدنية ديموقراطية وتكذب كل من يقول أنه من الصعب الفصل بين الإسلام والدولة، مثنيا على القرارات التى اتخذها السبسى وتتعلق بالمساواة بين المرأة والرجل فى الميراث والسماح للمرأة المسلمة بالزواج من غير المسلم، واصفا تلك القرارات بالجريئة والتى تؤسس الحرية فى تونس.
ماكرون يضع إكليل من الزهور على نصب شهداء تونس
إشادة ماكرون الإستثنائية بقرارات الرئيس التونسى المدنية فسرها المراقبون على أنها رسائل ضمنيه لحركة النهضة الإسلامية، على أن هناك رغبة باريسيه فى تراجع الإسلام السياسى عن المشهد أو على الأقل أن يظل فى المرتبة الثانية كما هو الآن، فى وقت يواجه فيه هذا التيار مواجهة دولية وتراجع بعد كشف ارتباط التنظيم الدولى للإخوان بالإرهاب.
وأشار المراقبون إلى أن حزب نداء تونس سيستغل تصريحات ماكرون فى معركته الانتخابية المقبلة، خاصة أن تلك التصريحات تأتى فى وقت حاسم مقبلة فيه تونس على انتخابات البلدية الأولى منذ ثورة الياسمين والتى ستعتبر مقياسا لتلك التشريعية والرئاسية فى 2019 ومستقبل من سيدخل قصر قرطاج، موضحين أنها تصب فى مصلحة حزب الرئيس الذى أعلن منذ أسبوعان فك ارتباطه بحركة النهضة بعد أربعة أعوام من التفاهم على تقاسم السلطة، وخوض تلك الانتخابات منافسا لتيار الإخوان.
السبسى يلتقى ماكرون
لقاءات الوفدان التونسى والفرنسى فى قصر قرطاج
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة