هل كان تولستوى ملحدًا؟.. رفض ألوهية المسيح وقال: الأديان تم تحريفها ونمارس عادات شعبية.. ونيتشه: فلسفته تافهة ومبتذلة.. و"جوركى" فى رسالة لـ"تشيخوف": ذكاء عينيه يؤكد إلحاده.. وستيفان زفايج: أدبه وثنى

الجمعة، 16 فبراير 2018 08:00 ص
هل كان تولستوى ملحدًا؟.. رفض ألوهية المسيح وقال: الأديان تم تحريفها ونمارس عادات شعبية.. ونيتشه: فلسفته تافهة ومبتذلة.. و"جوركى" فى رسالة لـ"تشيخوف": ذكاء عينيه يؤكد إلحاده.. وستيفان زفايج: أدبه وثنى غلاف الكتاب
كتب بلال رمضان

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
هل كان ليف تولستوى ملحدًا؟.. ربما يبدو السؤال صادمًا لعشاق الكاتب الروسى، الذى ما يزال يشغل بال الكثيرين ويحتفظ لنفسه بمكانة كبيرة فى المكتبة العالمية، وقد يبدو السؤال أكثر غرابة حينما تطالع فى أولى صفحات كتاب "ليف تولستوى.. فى الدين والعقل والفلسفة"، الصادر عن دار آفاق للنشر، وأن تقرأ مقدمة المترجم يوسف نبيل، والتى تتصدرها رسالة مكسيم جوركى إلى تشيخوف عام 1900، والتى يتحدث فيها عن "تولستوى".
 
ويقول مكسيم جوركى متحدثا عن ليف تولستوى فى رسالة إلى تشيخوف:
 
كل شىء فيه منصهر وجميل جمالا رائعا. لم أستطع أن أصدق أنه ملحد، رغم أنى أحسست بذلك. أما الآن، بعد أن سمعته وهو يتحدث عن المسيح، وشاهدت عينيه - اللتين تشيان بذكاء أكبر من أن يكون فى مؤمن - فإنى أعلم أنه ملحد إلحادًا عميقًا. أليس كذلك؟.
 
ليف تولستوى فى الدين والعقل والفلسفة
 
 
هنا يقع القارئ فريسة للسؤال الذى يفرض نفسه على عقول قراء الكتاب، هل حقًا كان ليف تولستوى ملحدًا؟، وماذا عن تلك الاقتباسات التى تملأ صفحات مواقع التواصل الاجتماعى المخصصة للقراءة، والتى تعج بمقولات للرجل نفسه عن الدين الإسلامى؟!.
 
ككاتب روائى، أجاد المترجم يوسف نبيل حياكة شباكه للإيقاع بفريسته الوحيدة، ألا وهى القارئ، فما أن ينتهى من قراءة رسالة مكسيم جورجى إلى تشيخوف، نجد "نبيل" يخبرنا بأن "جوركى" لم يكن وحده "من رأى فى تولستوى أنه ملحدًا، بل وكثير من معاصريه من المفكرين والفلاسفة، كما وصف جورج ستاينر أدبه بالوثنى الذى يعبر عن روح الملحمة قبل كل شيء. وكرر هذا الوصف ستيفان زفايج، معتبرا دقة التفاصيل المادية ووصف المشهد البصرى بتوغل فى الناحية المادية دليلاً على الروح الوثنية اليونانية المتغلغلة فى تولستوى".
 
إذن ما الذى فعله أو بمعنى أدق ما قاله تولستوى لتراه هذه الأسماء اللامعة فى سماء الأدب ملحدًا، ناهيك عن السؤال الذى ربما يشغل البعض منا، ألا وهو: وهل كانت هذه الكوكبة من الأدباء والكتاب تهتم بأمر إيمان أو إلحاد كاتب آخر؟، لكن ما يعنينا فى المقام الأول، ما الذى دفع هؤلاء للقول بـ"إلحاد تولستوى". 
 
يعرض لنا المترجم يوسف نبيل فى مقدمته كيف تناول تولستوى أعقد المسائل الفكرية والفلسفية والدينية؛ محاولاً - أى المترجم - الإجابة عن سبب سوء الفهم الذى وصفه بـ"المتعمد"، فيرى "نبيل" أن كتابات تولستوى –بعد تبلور أزمته الروحية العنيفة - أخذت تتجه نحو البساطة والوضوح أكثر فأكثر، بشكل يصعب معه إساءة فهمها أو تفسيرها، فهى ليست بحاجة إلى تفسير، بل إن تولستوى صمم فى كثير من كتاباته الأدبية الأخيرة على أن تكون بسيطة بشكل متناهٍ، ليتسنى للفلاحيين البسطاء قراءتها، بعد أن شعر أن غالبية الشعب الروسى لا يمكنه قراءة الأعمال الأدبية.

 

تكفير تولستوى

ويشير المترجم إلى أن الكنيسة رأت إلحاد تولستوى حينما رفض الاعتراف بمجمل عقائدها حول ألوهية المسيح وتجسده والثالوث والفداء، فقد أفرغ الدين من كل شيء سوى تعالميه الأخلاقية.
 
وتكشف كتابات تولستوى فى الدين عن عدة أمور خطيرة تحتاج إلى التوقف والإمعان والملاحظة، أولها كما يذكر المترجم فى مقدمته الموقف المركب من الدين الذى أدى فى النهاية إلى كل الخلافات الحقيقية التى نحياها الآن، حيث انتقد تولستوى تفسيرات ورؤى الفلاسة الغربيين للدين، وفند الكثير منها، أو على الأقل قدم انتقادات جدية حول هذه التعريفات والتفسيرات الشهيرة التى اعتمدها الاتجاه المادى الذى سيطر على الفلسفة والفكر الغربيين تمامًا، سواءً كانت مادية ميكانيكية فجة، أو مادية إنسانية.
 

تفسير الفلاسفة لظهور الدين

ويوضح "نبيل" أن آراء "فرويد" و"ماركس" و"راسل" و"فويرباخ" وأوجست كونت وغيرهم من الفلاسفة والمفكرين تتشابه إلى حد كبير، أو على الأقل تتفق فى كثير من النقاط، فكثير منهم فسر ظهور الدين على أنه نتاج الخوف من ظاهر الطبيعة غير المفهومة، ومن ثم تجسيدها وتأليه الإنسان لهذه القوى الطبيعية والخضوع لها، وقال البعض إن الدين قد نشأ عن روحنة كافة الظواهر الطبيعية، أو أنه إعادة إنتاج لمشاعر العجز والضعف والعداء صوب الأب، والبعض يؤكد أن عصر الدين قد مضى، وأنه قد حان الآن الوقت لاستبداله بالعلم.
 

تولستوى وموقفه من الدين

أما تولستوى فقام بتفنيد هذه الآراء فكريًا، ولم يكتف بهذا فقط، بل أعمل مشرطه النفسى فى تحليل الأسباب الحقيقية خلف الموقف المركب من الدين لدى كثير من المثقفين، فالعداء الحقيقى للدين يكمن فى عدم الرغبة فى اتباع النواميس الأخلاقية التى تحض على ضبط النفس. يستشهد تولستوى بأدلة كاشفة حول المواقف الأخلاقية لكثير من المثقفين والليبراليين فيما يخص شهوات الطعام والجنس وغيرها.
 

تولستوى والعداء مع الدين

ويؤكد تولستوى أن العداء مع الدين له جذوره الأخلاقية فى الأساس، لا الفكرية. ومن هذه الرؤية يمضى باحثًا عن معنى الدين الحقيقى، فلا يجده فى المسيحية الكنسية أو البوذية الرسمية أو الكونفوشيوسية أو الإسلام، وبقية الأديان الرسمية.. إنها كلها أديان، لكنها ليست "الدين"، فكلها محاولات ظهرت فى أوقات وعصور مختلفة؛ استجابة لحاجة إنسانية حقيقية، وتدهورت فى عصور أخرى لتتحول إلى عقائد منافية للعقل تعتمد على المعجزة والأسطورة ومبادئ عدم المساواة. يتلخص الدين بمعناه الحقيقى – لدى تولستوى – فى مبادئ بسيطة للغاية عن مساواة البشر جميعًا وأخوتهم وأبوة الإله الواحد لهم، ونبذ الشر والعنف وضبط الذات.
 
فعندما تطرح هذه الأفكار، يقول الملحدون إنها رؤية أخلاقية لا دينية، وهم هنا يتحدثون عن الدين بوصفه دوجما عقائدية مثلما فى المسيحية الكنسية أو غيرها من الأديان، ويؤكد تولستوى أنهم يتعاملون مع شيء ما بوصفه الدين، وهو ليس كذلك. بالرغم من بساطة أفكار تولستوى التى يطرحها عن الدين، إلا أنها لا تتطابق مع الدين الإنسانى الذى دعا إليه المفكرون الإنسانيون فى عصور عديدة، ففكر تولستوى الدينى يعتمد على ثنائية الإله – الإنسان، وبالرغم من اعترافه بمحاولات الإنسان الممكنة للسلوك فى طريق الكمال، إلا أنه لن يبلغ الكمال؛ لأنه طريق لا ينتهى، والإنسان عنده ليس بديلاً عن الإله، أى أنه ملزم بتنفيذ ناموس الله، وكل منهما له مكانة فى العلاقة، ولا يمكن تجاوزه عبر محاولات تأليه الإنسان التى سعى إليها الدين الإنسانى. الدين الإنسانى – بعيدًا عن تولستوى – ديانة بلا إله، أما عند تولستوى فالأمر ليس كذلك، وينعكس هذا بشدة فى تعالميه الأخلاقية التى تحافظ على تواضع الإنسان، ولا تؤلهه على الإطلاق.
 
ويرى المترجم يوسف نبيل أن جذرية أفكار تولستوى أدت إلى صعوبة قبولها؛ فهى لا تتعامل مع الحلول الوسطية، وفى دعاويها للعصيان لا تستند على المصالح الطبيقة أو المادية، بل الدينية والأخلاقية قبل كل شىء.. إنه يدعو لعصيان شامل لكل نظام يستخدم كل قواه المادية من أجل ترسيخ العنف والظلم.. إنه عصيان جذرى لا يمكنه أن يقبل بأى مساومات.
 
ويوضح "نبيل" أنه بقدر جذرية وأصالة أفكار تولستوى، بقدر تبسيطها لبعض المسائل المعقدة، ففى دعاويه للعصيان اعتمد بالكامل على الموقف الدينى، ولم يتطرق مثلاً لإجابات أسئلة معقدة مثل سبب تأييد الناس لأنظمة لا تسعى صوب مصالحهم بل لظلمهم والإضرار بهم.. لقد فسر هذا بالدين الفاسد الذى أثرت به الكنسية على الناس من ناحية، وإنكار هذا الدين الفاسد من قبل العلماء على أنه الدين الحقيقى، مما نحا بالناس إلى البعد الكامل عن ضبط الذات وقبول أى ناموس أخلاقى، ومن ثم قبول الفساد، لكن مع الوقت أثبتت هذه الرؤية بعض القصور.
 

تولستوى ونيتشه

ويرى المترجم – الذى انتقى مجموعة من مقالات تولستوى نقلها عن الروسية إلى العربية – أنه ربما احتاجت أفكار تولستوى إلى تأصيل نفسى، يمكنه من تفسير بعض الظواهر الاجتماعية، ويساعده أكثر فى وضع نظريته الدينية والاجتماعية، ورغم ذلك نجح فى الولوج إلى أعماق سحيقة ببساطة مخيفة، حتى أنها كادت صادمة بشكل لا يقبله كثيرون، فعندما يدعو تولستوى فلسفة نيتشه بالتافهة والمبتذلة، يعبر هنا عن روح جريئة مناقضة للتيار الفكرى العام.

 

ما الدين.. وأين يكمن جوهره؟

ومن أبرز المقالات التى يتضمنها كتاب "فى الدين والعقل والفلسفة"، ما جاء تحت عنوان "ما الدين، وأين يكم جوهره؟" يقول تولستوى: فى كل المجتمعات الإنسانية، وفى فترات معينة من حياة تلك المجتمعات، دائمًا ما حلت بعض الأوقات انحرف فيها الدين عن معناه الحقيقي، ثم أخذ هذا الانحراف يزيد أكثر فأكثر، حتى فقد الدين معناه الرئيس، وحين تحول إلى صيغ متحجرة أخذ يذبل، ومن ثم أخذ تأثيره على حياة الناس يضعف أكثر فأكثر.

 

فى هذه الفترات، لا تؤمن الأقلية المثقفة بالدين، بل تتظاهر فقط بالإيمان به، معتبرة أن هذا ضرورى من أجل إقرار النظام فى حياة الجماهير وبينما تريد الحفاظ على هذه الصيغ القائمة من الدين بدافع الاستمرار لا أكثر، لا تسترشد بتعاليمه فى حياة أفرادها اليومية؛ بل بالعادات الشعبية والقوانين التى تسنها الدولة.
ويقول تولستوى: وتحرفت المسيحية – شأنها شأن كافة الأديان الأخرى – مع فارق وحيد، فلأن المسيحية تحديدًا أعلنت بوضوح تام قاعدتها الأساسية حول مساواة كافة البشر كأبناء لله، وجب تحريف كل تعاليمها بقوة، لإخفاء ذلك الإعلان الصريح. وبمساعدة مفهوم الكنيسة حدث ذلك كما لم يحدث من قبل مع أى ديانة أخرى. وحقا، ما من ديانة واحدة قد وعظت بهذه التعاليم التى تخالف بوضوح العقل ومعارف الناس المعاصرة، تلك التعاليم غير الأخلاقية، كما فعلت الكنيسة المسيحية.
 
 
ويضيف تولستوى: ولن أتكلم عن كل سخافات العهد القديم من قبيل خلق الضوء قبل الشمس، ونشأة الكون منذ 6 آلاف عام فقط، ووضع كل الحيوانات فى الفلك، وعن كل الكوارث الأخلاقية التى وصفها مثل ذبح الأطفال وكل السكان بأمر من الرب، وعن كل الألغاز السخيفة التى تحدث عنها فولتير، فمع وجود تعاليم دينية سخيفة كثيرة، إلا أن واحدة منها لم تصل إلى حد أن يأكل الإنسان خالقه يقصد سر الأفخاريستا فى الكنيسة، حيث يشترك المؤمنون فى تناول خبز وخمر، مع إيمانهم بتحوله إلى جسد المسيح ودمه، اللذين بذلهما المسيح على الصليب؛ من أجل غفران خطايا البشر، كما تعتقد أغلب الكنائس.
 






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة