كشف تاريخى فى قصر الأمير يوسف كمال.. لأول مرة ننشر صور تمثال الرائد «محمود مختار» الذى صنعه تخليدا لذكرى نجاة الأمير من الموت.. زعيم البشارية فى بورتريه من الجص يبرز الملامح السمراء الجامعة بين القوة والمروءة

الأحد، 04 فبراير 2018 05:19 م
كشف تاريخى فى قصر الأمير يوسف كمال.. لأول مرة ننشر صور تمثال الرائد «محمود مختار» الذى صنعه تخليدا لذكرى نجاة الأمير من الموت.. زعيم البشارية فى بورتريه من الجص يبرز الملامح السمراء الجامعة بين القوة والمروءة متحف محمود مختار
تحليل يكتبة الدكتور ياسر منجى - تصوير - محمد الحصرى

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء

- زعيم البشارية فى بورتريه من الجص يبرز الملامح السمراء والقَسَمات الجامعة بين قوة أبناء الصحراء ومروءة الروح السَمحة
 

- هنا تم إعداد أضخم مؤلَّف جغرافى ظهر فى العالم حتى الآن عن جغرافية أفريقيا كما تُعَدُّ أكمل ما صَدَر فى هذا الباب

«يفتحُ لك بابَ القصر الخارجى بوابٌ نوبى عجوز، ثم تسيرُ بك السيارة مسافةً فى حديقةٍ غَنّاء واسعة الأرجاء، فإذا بَلَغتَ الباب الداخلى تَلَقّاكَ على شُرفَتِه، فى أعلى سلالِمِه، خادمٌ سودانيٌّ طويل القامة، عريض الكتفين، مفتول الساعدين، فى لباسٍ رشيق المظهر جميل الشكل، يتألفُ من سروالٍ أزرق وصديرى أحمر، يجمع بينهما حزامٌ أزرق وأحمر، وهما اللونان الساطعان اللذان اتخذهما مؤسسو الأسرة العَلَويّة شعارًا لهم.

 قصر الأمير يوسف كمال (1)

بينما كان أحدُ الخدم يحملُ بطاقتى إلى الأمير الجليل، كان آخرُ يسيرُ إلى إحدى قاعات الاستقبال، وهى أولى القاعات القائمة إلى يمين البهو الكبير، وقد صُفَّت فى جوانبِها التحف الأثرية، وحُلِّيَت جدرانها بالصور الزيتية. ثم حانت منى التفاتةٌ إلى الجهة اليمنى، فأبصرتُ بابًا صغيرًا يؤدى إلى قاعةٍ فخمةٍ أخرى، فسَرَّحتُ الطرفَ فيها، فإذا بها قاعة «القاشانى»، ولكننى لم أكد ألقى عليها نظرةً إجماليةً عامة، حتى وافانى الخادم، ودعانى إلى المثول بين يدَى الأمير الكريم، فتَبِعتُه إلى حجرة مكتَبَتِه، ولما دخلتُها ألفَيتُ سُمُوَّه جالسًا إلى مكتبِه يطالعُ فى كتابٍ كان بيَدِه، فتفضَّل ونهض وصافحنى برِقَّةٍ ولُطف، ثم أشارَ إلى كرسيٍّ كبيرٍ كان أمامه، فجَلَستُ عليه تُحيطُ بى دواليبُ المؤلفات والمصنفات التى تغصُّ بها خزانةُ سُمُوِّه، وهى تحتوى على ما يزيد على خمسة آلاف مجلد فى العلوم التاريخية والجغرافية، وفيها من النُسَخ الفريدة فى نوعِها الوحيدة فى فنِّها ما يتعذّر اقتناؤه مهما دُفِع فيه من مال».
 
 لم يكُن هذا خيالًا طاف برأسى، وأنا أدلِفُ صبيحة يوم الأحد، الموافق 14 يناير 2018، إلى داخل قصر الأمير «يوسف كمال» (١٨٨٢ - ١٩٦٩) بالمطرية، أو بالأحرى داخل «مركز بحوث الصحراء»، التابع لوزارة الزراعة واستصلاح الأراضى.
 
 لقد كانت كلماتٌ تعبُرُ حواجز تسعةٍ وثمانين عامًا، لتتردد أصداؤها فى جنَبات عقلى ووجدانى، بينما تقودنى قدماى شيئًا فشيئًا، عَبر حديقة القصر، لأصعد درجات سُلَّمٍ طالما ارتَقَتهُ قدما أكبر رعاة الفن وأشهرِهم قاطبةً بين أمراء أسرة «محمد عليى».
 
 كانت أصداءُ كلماتٍ، كتبها الصحفى «كريم ثابت» (1903 – 1964)، الذى اشتهر بسبب تَوَلّيه منصب المستشار الصحفى للملك «فاروق» فيما بين عامَى 1942 و1952، ومؤلف المذكرات التى أثارت لَغَطًا عند نشرها، بجُزءيها: «عشر سنوات مع فاروق»، و«فاروق كما عرفته».
 
 كان «كريم ثابت» لا يزال بعدُ فى السادسة والعشرين مِن عُمرِه، حين زار قصر الأمير «يوسف كمال» فى إبريل من عام 1929، ليسجل خلال زيارتِه تلك ملاحظاتٍ قيّمة، وإن كانت قليلة، عن بعض معالم القصر ومقتنياتِه، كما كانت تبدو فى أبهى حالاتها، خلال الثلث الأول من القرن الماضى، كما رسم ملامحَ سريعةً لشخصية ذلك الأمير الفريد، حفيد محمد على، الذى تنازل لاحقًا، على نحوٍ مفاجى، عن ولاية عهد عرش مصر فى إبريل من عام 1932، والذى جمع فى شخصيتِه سمات النبالة والشغف بالعلوم والفنون، فضلًا عن عشق المغامرة والترحال والرياضة، فكان جديرًا بأن يترك فى تاريخ مصر الحديث بصمةً مؤثرةً، يتجلى أثرُها الأبرز فى تأسيسِه عام 1908 لـ«مدرسة الفنون الجميلة المصرية» – كلية الفنون الجميلة القاهرية حاليًا – أول مؤسسة لتعليم الفنون على النَسَق الأكاديمى فى الشرق الأوسط.
 
 بطبيعة الحال، لم يفتح لى البواب النوبيُّ باب القصر الخارجي؛ إذ كان مفتوحًا بالفعل، ولم يكُن عَلَيّ أكثر من تعريف نفسى إلى أفراد طاقم الأمن المسؤولين عن حراسة المكان، وتسجيل بياناتى فى دفتر الزيارات، بعد حصولٍ مُسبَق على تصريحٍ بالزيارة.
 
 قصر الأمير يوسف كمال (2)
 
 قطعتُ المسافةَ من الباب الخارجى إلى مبنى القصر سيرًا، متأملًا حالة النشاط الكبير البادية فى أرجاء الحديقة؛ مع حركة العديد من العاملين والإداريين والباحثين، وهم ينتقلون ما بين مبنى القصر ومبانٍ أخرى مجاورة له، بعضُها يبدو من طرازِه أنه يعود لزمن الأمير. كان القصرُ شامخًا، تشهد رشاقةُ تصميمِه على براعة مهندِسِه الإيطالى «أنطونيو لاشياك» Antonio Lsciac (1856 – 1946)، مدير القصور الخديوية بعد عام 1907، ومصمم بعض أشهر القصور المصرية؛ كقصر «الطاهرة»، وقصر «الزعفران»، وقصر «الدوبارة»، وقصر «سعيد حليم»، ومبنى «بنك مصر» بوسط القاهرة، وغيرها من بدائع العمائر والقصور.
 
 قصر الأمير يوسف كمال (3)
 
 استرعى انتباهى أن القصر لا يزال محتفظًا بمعالم واجهاتِه الخارجية بدرجةٍ ممتازةٍ مِن الرونق، إلى درجة أننى استشعرتُ لوهلةٍ، حين بلَغتُ الشرفة العلوية لسلم بابه الداخلى، أن ذلك الخادم الرشيق البَهِيّ الطلعة يوشِكُ أن يتلقانى بِزِيِّه المُزركَش.
 
 غير أننى لم أفتقد الحفاوةَ، التى سبق وأن نالها قبلى «كريم ثابت» منذ حوالى تسعين عامًا؛ إذ سرعان ما استقبلنى إداريّو «مركز بحوث الصحراء» وباحثوه بحفاوةٍ مماثلة، وبدا من خلال أحاديث قصيرةٍ، دارت بينى وبين عددٍ منهم، أنهم على درايةٍ جيدة بخصوصية المكان التراثية، وكذا بسيرة الأمير ومآثِرِه.
 بالطبع تغير الحالُ كثيرًا؛ إذ لم يعُد القصر يشتمل بداخلِه على أغلب المحتويات التى رآها «كريم ثابت»، ووصفَ بعضَها بانبهارٍ زائد؛ إذ حلّ محلُّها أثاثٌ جديد، يتناسب وطبيعة النشاط الإدارى والبحثى للمركز. وبخلاف المعالم المعمارية الداخلية البديعة، والزخارِف الجدارية الدقيقة التى تزدَهى بها أغلب قاعات طابِقِه الأول، وكذا نقوش بعض الأَسقُف المزخرفة على نَسَق الأسقُف المملوكية، لم تكُن أغلب مقتنيات الأمير النفيسة موجودة، بعد أن تفَرَّقت بين مجموعاتٍ متحفية متعددة.
 
 قصر الأمير يوسف كمال (4)
 
كان الأمير قد أوقَفَ أغلب محتويات القصر، بما تَشمَله من تحفٍ وآثار ثمينة نادرة، على «دار الآثار العربية» «متحف الفن الإسلامى بالقاهرة حاليًا»، وكانت تتضَمَّن العديد من قطع السجاد وقِطع فنية عربية وشرقية نادرة، كان قد اقتناها من شتى أنحاء العالم، وبخاصةٍ من الصين وتركيا ومراكش والسودان. وتضَمَّنَت هذه الوقفيّة عددًا مِن الثُرَيّات، ومنابر المساجد، والمشغولات الفضية والذهبية، والمصاحف، والدروع، ومجموعات من الصحون، والأباريق، والخناجر، والسيوف، واللوحات الفنية، التى يرجع تاريخُها إلى عصور مختلفة، ومجموعة من المنسوجات التى يرجع تاريخُها إلى القرنين السابع والثامن الميلاديَّين.
 وكان الأمير قد اشترط عند نقل هذه النفائس إلى «دار الآثار العربية» أن يُنتَفَع بها، ويُصرَفَ ريعُها، من الرسوم التى يدفعها الزائرون، للفقراء والمحتاجين..
كذلك فقد أهدى للدار مجموعة من الكتب والمراجع فى الفنون والعمارة، وبعض الصور المجسمة، ليستفيد منها المشاهدون وطلاب العلم والمبدعون بدون مقابل. وقد حرص آنذاك على تسجيل كل قطعة منها، مع وصفٍ تفصيلى لها، وذِكر مَنشأها وتاريخ صُنعها، وثمنها الذى قُدِّرَت به فى تاريخ وقفها.
 
 كذلك فقد آلَت معظم فرائد مكتبتِه النادرة إلى «دار الكتب المصرية»، وهى محفوظة بها إلى الآن بقاعة المكتبات الخاصة.. غير أن بعض هذه المجلدات المهمة لا يزالُ موجودًا بالقصر؛ حيث لاحظتُ خلال زيارتى اشتمال بعض خزانات قاعة المكتبة بالمركز على عددٍ منها، محفوظةً فى ركنٍ خاص، بمَعزلٍ عن بقية الوثائق والمؤلفات الحديثة الخاصة بالمركز.
 
 ظلَلتُ لبُرهةٍ أتأمل جدران البهو الداخلى الشاهقة؛ عَلَّنى أرى شيئًا من مجموعة الطيور المحنطة ورؤوس الحيوانات المفترسة وجلود الأسود، التى كانت من بين أشهر محتويات هذا القصر خلال حياة الأمير «يوسف كمال». أجَلْتُ عيناى عدة مراتٍ فى جنَبات البهو الكبير، لِيَرتَدّ إلَيَّ نظرى مُشبعًا بصورة الحاضر، وحاولتُ قدر استطاعتى أن أتخيل المنظر الذى أجمَلَه «كريم ثابت» بقوله: «قد حُلِّيَت جدرانُه الضخمة برؤوس الغزلان والضوارى، التى اصطادها الأمير الرحّالة فى خلال رحلاته العديدة». غير أننى لم أرَ شيئًا من هذه المجموعة، باستثناء نموذجٍ لفك حيوانٍ برّيّ، رأيتُه موجودًا أعلى سياج السُلّم الرخامى الداخلى المؤدى للطابق العلوى، وقرن غزالٍ موجودٍ داخل قاعةٍ رخامية بديعة الزخارف.
 
لقد تفَرَّق شَملُ هذه المجموعة بِدَورِها؛ إذ كان الأميرُ قد أهدى بعضها إلى «متحف فؤاد الأول الزراعى»، كما ضُمَّ الكثير منها لاحقًا إلى متحف قصر الأمير «محمد على توفيق» بالمَنْيَل. 
 
كانت كل قطعةٍ من هذه المجموعة تسجّل رحلة صيدٍ موفقة للأمير «يوسف كمال»، الذى كان مُولَعًا ولعًا شديدًا بالقنص البرى، وعاشقًا لاستكشاف البرارى والصحارى، واشتهر برحلاتِه المخصصة لذلك، فى غابات إفريقيا والهند على وجه الخصوص.
 
 قصر الأمير يوسف كمال (6)
 
أما الغُرَف والقاعات الموجودة بالطابق العلوى، التى تشغَلُها حاليًا مكاتب طاقم العاملين بمركز بحوث الصحراء، فتَتَّسِم بطابعٍ عملى - مقارنةً بقاعات الطابق الأول– إذ لم يبقَ من معالم روعتها القديمة سوى الكُسوات الخشبية، وبعض النقوش الجصيّة، والتجاليد الحريرية الرهيفة على الأجزاء العلوية للحوائط، فضلًا عن تصميم الشرفة العلوية، المطلة على الواجهة الرئيسية للقصر، التى يميزها سقفٌ جاء تصميمُه على هيئة مصغرة، مُستوحاة من تصميم قبة «البانثيون» Pantheon الرومانى بفجوَتِه الشهيرة. وفى المقابل، اتَّسَمَت قاعات الطابق الأول بفخامةٍ واضحة؛ إذ بَدَت نقوشها الدقيقة على حالة ممتازة من الرونق، وكذا نوافذُها التى يزدانُ عددٌ منها بالزجاج الملون المعشق بالرصاص، فضلًا عن بعض الأسقُف المحلاة بالزخارف والكتابات العربية المُذَهّبة، والحوائط المَكسُوّة بالأخشاب المحفورة، وبمسطحات الرخام المزخرف والفسيفساء.
 
اجتاحتنى قشعريرةٌ فور دلوفى إلى قاعة المطالعة الخاصة بالأمير، والتى تمثل امتدادًا لقاعة مكتبته الضخمة، الموجودة تلقاءَها فى الناحية المقابلة من البهو. هنا، حيث كان «يوسف كمال» يتابع، على امتداد ثلاثة عشر عامًا – فيما بين 1926 و1939 - مراحل إعداد مجموعتِه الفريدة، «المجموعة الكمالية فى جغرافيا مصر والقارة الإفريقية» Monumenta cartographica Africae et Aegypti، التى تُعَدّ أضخم مؤلَّف جغرافى ظهر فى العالم حتى الآن عن جغرافية القارة السمراء، كما تُعَدُّ أكمل ما صَدَر فى هذا الباب.
 
هنا، حيث كان الأمير يعرض على زوار قصره بفخرٍ شديد، الأجزاء الأربعة عشر لهذا السِفر الضخم، الذى اشتملت مجلداتُه على بحوثٍ ضافية فى هيئة القارة وأقاليمها وتقاسيمها، معمورِها ومجهولِها، وما اتصل بها من بحار وجبال وجُزُر، كما اشتملت على ما نُشِر قديمًا – منذ عصر الأسرة السادسة فى مصر القديمة – مرورًا بكتابات الرحالة الإغريق والرومان والفُرس والعرب والأوروبيين، وحتى زمن الأمير «يوسف كمال»، عن تخطيط هذه القارة وكشف مجاهلِها وارتياد سُبُل المواصلات فيها، برًا وبحرًا، وطُرُق أشهر الرواد.. ومن مزايا هذا الكتاب الفريدة أنه أعاد نَشر الكثير من فرائد المؤلفات الجغرافية المجهولة، فى الشرق والغرب، ولا سيما ما عُرِفَ خلال عهد «بطليموس»، فضلًا عن العديد من التقاويم والمصنفات التاريخية، التى تعرضت للقارة الإفريقية بالدرس والبحث.
 
 قصر الأمير يوسف كمال (5)
 
 وقد حرص الأمير على تسجيل النصوص التى جمعها فى هذا السِفْر الفريد بلغاتها الأصلية، إلى جانب ترجماتها الفرنسية، مع شروحها وتعليقات عليها.. وبذلك تضمنت «المجموعة الكمالية» نصوصًا باللغات المصرية القديمة، واليونانية، واللاتينية، والعبرية، والفارسية، والسريانية، والأمهرية «الحبشية»، والصينية، والإنجليزية، وغيرها من لغات العالم.
 
وبرغم نفاسة المادة العلمية التى تشتمل عليها «المجموعة الكمالية»، فإن أهمية هذا المؤلَّف الفريد الضخم لا تتوقف فقط على المحتوى – برغم فرادَتِه – بل تستمدها كذلك من قيمتِه الجمالية والفنية؛ وهو ما يمكن أن نتصوره حين نعلم أنه طُبع خصّيصًا فى هولندا، آنذاك، فى مجلداتٍ ضخمة، يتجاوز طول كلٌّ منها مترًا كاملًا، وفى طبعة محدودة، مكونة من مائة نسخة فقط، أهدى 75 نسخة منها إلى مكتبات وجامعات كبرى فى أنحاء العالم، وأبقى على 25 نسخة منها فى مصر.
 
 وقد طُبِعَت جميع الصور والخرائط النادرة التى اشتملت عليها نُسَخ المجموعة طباعة فوتوغرافية، بعد أن جمع الأمير صورها من مختلف مكتبات العالم ومتاحفه، وتم لصقها على ورق الكتاب بأسلوبٍ مُحكَمٍ للغاية، بحيث تبدو للمتصفِّح، حتى عند لَمسِها، وكأنها جزء من نسيج الورق.
 
خرجتُ من هذه القاعة التى شهدتَ وقائع إعداد «المجموعة الكمالية» وظهور أجزائها للنور، مُتوَجّهًا إلى القاعة المقابلة، واستَشعَرتُ بمجرد دلوفى أن فضاء القاعة يموجُ بأطياف أبطال ذلك المشهد، الذى وصفه «كريم ثابت» بقولِه: «وكأن الأمير العلّامة أراد أن يضيف مِنّةً أخرى إلى مِنَنِه السابقة؛ فتَفَضّل ودعانى إلى مشاهدة «قاعة الجغرافية»، وهى تقع إلى يسار البهو الكبير، فى الجهة المقابلة لمكتبِه، وكان بعضُ مساعدى سُمُوِّه وكَتَبَتُه منهمكين فى تلك الساعة بنقل معلومات وخرائط، كلفهم نقلَها ورسمَها، فحَيّاهم برِقّة العالِم وعطف الوالد، ثم التَفَت إلَيّ، وقال وهو يشير إلى الدواليب التى شَغَلَت جوانب القاعة، وامتدت من الأرض إلى السقف: فى هذه الدواليب أحفظ الكتبَ والأطالس التى اقتنيتُها فى حياتى، فى عِلم الجغرافيا وتقاويم البلدان. نعم، أن هذه المكتبة لم تكمُل حتى الآن، ولكنها تحتوى على مجموعاتٍ ليس لها صِنوٌ فى مكانٍ آخر..... وقد أعجبنى بِوَجهٍ خاص، فى مجموعة الخرائط القديمة التى أطلعَنى عليها الأمير العلّامة، تلك الخرائط الأثرية، التى كان الأقدمون يضعونها لتعيين طُرُق مواصلاتِهِم البحرية، فكانوا يرمزون إلى البلدان التى يجدها المسافرون بعد اجتياز البحار، برسومٍ تدل على أهم ما تُظِلُّه سماءُ تلك البلدان؛ مثال ذلك: أنهم كانوا يرمزون إلى بلاد مراكش بمسجد على الطراز المغربى، ويرمزون إلى بلاد الحبشة برسم رجلٍ أسود البشرة، ويرمزون إلى البلاد الفلانية بأسد لأنها مشهورة بأُسُودها، ويرمزون إلى البلاد الفلانية الأخرى بالفيل لأنها مشهورة بفيلتها.. إلخ، وهذا قبل أن توجد الخرائط التى كُتِبَت عليها أسماء البلدان التى مُثِّلَت فيها».
 
 أفَقتُ من خواطرى مع كلمات «كريم ثابت»، لأنتقل إلى قاعة الاستقبال، الواقعة إلى يسار مدخل القصر، لأُطالِع عن يمينِه مدفأةً بسيطة، تعلوها لوحةٌ جداريةٌ، على هيئةٍ محراب (عقد) محاطة بإطارٍ خشبيّ. 
 
وتتضمن اللوحة مشهدًا يستلهم ما أُثِر عن الأمير من براعةٍ فى القنص؛ إذ يبدو فيه الأمير ممتطيًا صهوة جواده، ومحاطًا بمجموعة من الرفاق الفرسان، وهم بسبيلهم لاجتياز جدولٍ مائيّ، سبقتهم إلى خوضِه مجموعة من كلاب الصيد المدربة، على خلفية منظر ريفيّ مصرى، تصبغهُ أشعة شمسٍ ذهبية تُغَشّيها السُحُب، وبرغم أن اللوحة لا تحمل توقيعًا واضحًا، إلا أننى أميلُ لترجيح أنها من أعمال الفنان «هدايت شيرازى» (1892 – 1960)؛ وبخاصةٍ حين نتأمل أسلوب رسم مفردات المنظر الطبيعى الذى برع فيه على نحوٍ خاص، وكذا حين نقارن هذه اللوحة باللوحات المَثيلة، الموجودة داخل «قاعة العرش»، فى قصر الأمير «محمد على توفيق» بالمَنْيَل.
 
 غير أن أسعد لحظات هذه الزيارة على الإطلاق كانت فى انتظارى داخل قاعة الطعام، تلك القاعة التى تزدَهى بزخارفِها الرخامية الرهيفة، التى تكسوها بأكملها، فى تشكيلاتٍ هندسية ونباتية، تتداخل فى توريقات وتعاشيق ملونة، تتخللها مساحاتٌ وحنياتٌ رشيقة، مُغَشّاة بالفسيفساء المذهبة، وتنفُذُ أشعةُ شمس النهار مُلوَّنةً من إحدى واجهاتها، المغطاة بأكملها بألواحٍ من الزجاج الملون المعشق بالرصاص، تكسو نوافذها الضخمة بزخارف تأتَلِقُ فى شفافية.
 
لم يكُن مَبعَثَ سعادتى الكُبرى مجرد استمتاعى بجمال القاعة الباهر، بل كان مَبعَثُه وقوع نظرى على (بورتريه) نحتى، تَعَرَّفتُ فيه ف
ور رؤيَتِه على وجهٍ باسمٍ شديد التَمَيُّز. نعم، إنه هو بعَينِه «شيخ البَشّارِيّة»، المعروضة نُسخَتُه البرونزية فى متحف مَثّال مصر الأشهر «محمود مختار»!
 
 
 قصر الأمير يوسف كمال (7)
 
 إذَن فالرواية المتواترِة صحيحة - أو تحملُ ظِلًّا من الحقيقة على الأقل - تلك التى تشير باختصار شديد، فى بعض مؤلفات مؤرخى الفن المصرى الأوائل، إلى حادثةٍ فارقة فى حياة الأمير «يوسف كمال»؛ حيث تحكى القصة أن الأمير كان منطلقًا فى بعض جولاتِ صيدِه الصحراوية، ليتعرض لحادثٍ هدد حياتَه، لولا أن تدارَكَه زعيم قبيلة «البَشّارِيّة» بالإنقاذ. وتضيف الرواية أن الأمير استدعى الفنان الشاب «مختار»، أنبَغ خريجى «مدرسة الفنون الجميلة» - التى كان قد أنشأها بدارٍ أخرى له فى «درب الجماميز» – وطلب منه أن يُخَلِّد ملامح الرجل الشهم فى تمثالٍ جبسيّ، اعترافًا منه بجَميل الزعيم البَشّارى.
 
نعم، هى ذاتها الملامح السمراء، والقَسَمات الجامعة بين قوة أبناء الصحراء ومروءة الروح السَمحة.. نعم هى نُسخةٌ جبسيّة بالفعل، ترك الزمن آثارَه وخدوشَه عليها، وظهرَ إلى جوارها قرنٌ لغزالٍ، ربما لم يكن وجودُه مصادفةً؛ إذ ربما كان لذلك الغزال الذى واجَه الأميرُ الخطر خلال مطاردتِه.
 
وبخروجى من القاعة البديعة، انتهت زيارتى لقصر المطرية.. عبَرتُ الحديقة لأجتاز الباب الخارجى، والتَفَتُّ لإلقاء نظرةٍ أخيرة على واجهة القصر، محاولًا استحضار طيف الأمير، وهو يودع «كريم ثابت» فى ختام زيارتِه، التى أوشكَ تسعون عامًا أن تُسدِل على أحداثها أستار النسيان.. كانت واجهة القصر هادئةً كما هى، وبَدَت شرفة السلم خاليةً من الأطياف. غير أننى انصرَفتُ راضيًا؛ فهل هناك أجمل من أن أقابل «مختار» فى ضيافة «يوسف كمال»؟
 






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة