لماذا يقتصر تعريف مفهوم الفساد على الجوانب القانونية والجنائية باعتباره يخص كل من سرق، أو استولى، أو اختلس، أو أهدر، أو رشى، أو ارتشى فحسب؟ المفهوم على هذا النحو قد يكون صحيحا من ناحية قانون العقوبات، لكنه لا يكون شاملا أو جامعا مانعا إلا إذا تضمن سلوكيات وأفعالا أخرى هى أصل الفساد والإفساد فى الأرض، لكن القوانين لا تختصها بعقوبة، ولا تحاسب التشريعات مرتكبى هذه الأفعال فى محاكم الأرض.
قل لى أنت ماذا تسمى الأفعال التالية:
• وزراء يتصدون للمشكلات السهلة ويماطلون فى معالجة الملفات الصعبة عمدا «بيشترى دماغه».
• مسؤولون يؤخرون قرارات مهمة فى الأدراج بلا سبب أو معنى «مش فاضى».
• محافظون يتقاعسون عن جلب استثمارات جديدة لمحافظاتهم الفقيرة «مش مسؤوليتى».
• مديرو مؤسسات عامة يقترضون من البنوك لصرف أرباح للعمال «علشان ما تحصلش مشكلة».
• قيادات فى مواقع كبيرة تكاسلت عن تنمية شركاتها وزيادة الأرباح «إحنا لسة هنعمل مشروعات جديدة؟!».
• رؤساء قطاعات جماهيرية تتجاهل شكاوى الناس ولا تحقق فى هموم المتعاملين مع القطاع «بلاش وجع قلب».
• مسؤولون فى إدارات الاستثمار فى الحكومة أداروا لسنوات بلا مشروع استثمارى واحد «محدش تقدم يا فندم».
• مديرون أنفقوا الميزانيات بالقانون واللوائح، لكن الإنفاق لم يعد بأى دخل على شركاتهم «قسمة ونصيب»؟!
هذه النماذج ليست سوى أمثلة قليلة من صور متعددة للتأخر الذى يشهده المجتمع، وتعانى منه المؤسسات الحكومية تحت تأثير هذا النوع من القيادات التنفيذية التى لا تحقق أى نوع من التقدم، وتؤجل عمل اليوم إلى بعد غد، وبعد أسبوع، ولا تتعامل بجدية مع الظرف الاقتصادى والتنموى الراهن، هذه النماذج لا ينظر إليها القانون باعتبارها ترتكب فسادا يساوى فى تأثيره السرقة والإهدار والاستيلاء والرشوة وغيرها، رغم أن تأثير هذا النوع من التكاسل الإدارى أو تأخير صدور القرارات أو التقاعس عن فتح آفاق جديدة للإنجاز، قد يكون أكبر كثيرا من صور الفساد المنصوص عليها فى التشريعات الجنائية.
أنت تسمع مثلا كلمة «لولا القوات المسلحة لم يكن المشروع قد ظهر إلى النور».
وتسمع أيضا «هذا الملف يجب أن يتدخل فيه الرئيس شخصيا حتى نضمن تنفيذه بجدية».
وتسمع كذلك «لولا أن عرضنا الشكوى على الرقابة الإدارية لما تحركت مطالب الناس».
وتسمع أيضا «هذه المشروعات فى لجنة فض المنازعات منذ ستة أشهر».
وتسمع كذلك «ناشدنا السيد الوزير ليتدخل لحل المشكلة فى المحافظة».
وتسمع كثيرا كلاما بهذا المعنى، كلاما يؤكد أن هناك قيادات وإدارات ومسؤولين ومديرين متخصصين فى «تعطيل المراكب السايرة»، والمماطلة فى التصدى للمسؤوليات الحقيقية، والإخفاق فى المتابعة، والتساهل فى عمليات التنفيذ، ولولا الرئيس أو الجيش أو الشكوى لمجلس الوزراء يبقى البلد حبيس أدراج البيروقراطية والخوف والكسل والتعطيل.
كل صور الفساد الجنائية لا تساوى شيئا بجانب هذا الفساد المنهجى فى دواوين الإدارات التنفيذية للدولة، وكل العقوبات المنصوص عليها فى القانون لا تعوض مصر هذا الإهدار التاريخى لكل فرصة نقفز بها إلى الأمام، وهذا الفساد لا يجوز أن يبقى رهنا بتدخل رأس الدولة أو قيادة القوات المسلحة، لكنه فساد يحتاج إلى ثورة تشريعية وإدارية تعيد صياغة مفهوم الفساد، وتفرض عقوبات على من يستنزفون طاقة البلد ومستقبلها تفاديا «لوجع الدماغ».
مصر من وراء القصد.