قبل مئة عام كان المشهد عاصف على الأراضى السورية، حيث كانت الثورات العربية ضد الدولة العثمانية الجاثية على صدر الوطن العربى منذ 400 عام بلغت ذروتها، ووقفت سوريا كباقى الأقطار العربية فى صف الحلفاء - فى الحرب العالمية الأولى - كيدا فى الباب العالى الذى أعلن عن مساندته لقوات المحور، وهنا التقط الجانبان الانجليزى والفرنسى مصالحهما المشتركة مع الثائرين العرب فدعموهم للخلاص من الوالى العثمانى.
وقتها كان مصطفى كمال قائدا للقوات العثمانية فى سوريا والذى واجه دخول الإنجليز بصحبة الأمير فيصل بن الحسين قائد الثورة العربية لتخليص الشام من الخلافة، وفى أكتوبر 1918 خرجت بلاد الشام من قبضة الباب العالى، ووقف كمال أتاتورك يتأمل المشهد خلال إشرافه على سحب وحدات الجيش العثمانى من سوريا عقب نهاية الحرب العالمية الأولى وهزيمة دول المحور، حيث كتب أتاتورك عن هذا المشهد أنه رأى بنفسه مشاعر ترحيب سكان هذه الأرض – سوريا - لدخول الجنود البريطانيين والأمير بن الحسن وسقوط الدولة العثمانية.
تلك الفرحة التى عاصرها أتاتورك فى أعين السوريين دفعته الى إحياء فكرة القومية التركية والتخلى عن دولة الخلافة والسعى لإقامة وطن تركى للأتراك على أرضهم الحقيقية وليس بالسيطرة على أراضى آخرى وأعراق مختلفة، وبدأ فى تشكيل النظرية الكمالية التى أقام عليها الدولة الحديثة العلمانية مبتعدا على المحيط العربى ومتجها نحو الغرب قدر المستطاع.
مصطفى كمال اتاتورك
وطالما كانت العلمانية مسيطرة على الحكم التركى كان العرب وأرضهم فى مأمن من الغدر العثمانى الكامن، ولكن ما أن رحل أتاتورك فى 1938 حتى عاود الإسلام السياسى النبش فى الماضى والحلم بالعودة الى حكم تركيا واستعادة زمن الخلافة، ومع وصول الحزب الديمقراطى الإسلامى الى الحكم - للمرة الأولى - فى عام 1950 أعلن رئيسة عدنان مندريس أن "المرحلة الكمالية انتهت"، وما كان من رئيس الحكومة الإسلامى مندريس إلا أن بدأ يلملم أطراف الحلم العثمانى مبديا دون مواربة أطماعه فى الأراضى العربية.
ومنذ خمسينيات القرن الماضى لم يعد هناك شك حول أطماع الإسلام السياسى فى السيطرة على تركيا ومنها التمدد الى العالم العربى، فما كان من مندريس بعد تولى الحكم إلا العمل مجددا لفكرة الخلافة الاسلامية وظهر عداءه للعرب والاستقواء بأمريكا وإسرائيل للسيطرة على سوريا ومصر والسعودية ولبنان، وأبدى تخوفا من علاقات دمشق بالاتحاد السوفيتى وتقربها من مصر وزعيمها جمال عبد الناصر، وزاد من الخلافات رفض سوريا الانضمام إلى حلف بغداد الذى تم إنشاؤه عام 1955 للوقوف بوجه المد الشيوعي في الشرق الأوسط.
وبعدها بعام تصاعدت الخلافات الحدودية بين تركيا وسوريا خاصة بعد فشل حلف بغداد فى تحقيق أهدافه فور انسحاب العراق منه على إثر نجاح الثورة وإنهاء الملكية وتشكيل الجمهورية التى اتجهت أيضا إلى الانفتاح على السوفييت، وفى 1957 ألقى مندريس خطابا تحريضيا ضد سوريا فى حلف شمال الأطلسى "الناتو"، أدعى فيه أن سوريا ستصبح قاعدة سوفيتية، وانطلقت القوات التركية بدعم أمريكى للتمركز على الحدود السورية لإسقاط النظام السورى واحتلال دمشق.
وفى مشهد مشابه لما يحدث اليوم من صراع بين روسيا وأمريكا على الأراضى السورية، حذر نيكيتا سيرغيفيش خروتشوف رئيس الاتحاد السوفيتى وزير خارجية واشنطن حينها من مجاراة تركيا فى استفزازاتها لسوريا، وبلغ الحكومة فى دمشق معلومات أكيدة بأن تركيا عززت قواتها على الحدود السورية للقيام بهجوم سريع خاطف على سوريا وقدرت القوات بخمسين ألف جندى وخمسمائة دبابة ومدافع سريعة الطلقات وطائرات.
لم يكن أمام دمشق إلا ان تلجأ الى القاهرة لحمايتها من الغزو الركى الذى يدق الأبواب، حيث زار القاهرة وفد عسكرى سورى ألتقى الرئيس جمال عبد الناصر طالبا منه الوحدة، وقام عبد الناصر بإنزال قوات الجيش المصرى فى اللاذقية لإعلان دعمة لسوريا فى وجه تركيا، واجتمع بعدها مجلس النواب السوري ومجلس النواب المصري في جلسة مشتركة وأصدرا بالإجماع بياناً فيه دعوة إلى حكومتي البلدين للاجتماع وتقرير الاتحاد بين الدولتين.
عدنان-مندريس-تركيا
وفي هذا الاتجاه اجتمع رئيسا البلدين وأركان حكومتيهما وأصدروا بياناً في 22 فبراير 1958 أعلنوا فيه توحيد القطرين في دولة واحدة تحت اسم "الجمهورية العربية المتحدة"، التي قرر أن يكون نظامها رئاسياً ديموقراطياً. وبالفعل جرى استفتاء شعبي على الوحدة وتم انتخاب جمال عبد الناصر رئيساً للجمهورية العربية المتحدة. ووضع في 5 مارس 1958 دستورا جديدا مؤقتا للجمهورية العربية المتحدة، فجن جنون رئيس الحكومة التركى الذى انشغل عن أوضاع بلاده بالمؤامرات ضد وحدة مص وسوريا، فزادت الزمات الداخلية حتى تحرك الجيش التركى ضده فى 1960 منهيا حكمه للبلاد بإعدامه.
ظلت الأطماع التركة دفينه ثلاثة عقود متتالية انشغل فيها الإسلاميون بتهيئة الأوضاع الداخلية للسيطرة على حكم أنقرة، فعادت تركيا تهدد من جديد سوريا بالغزو بذريعة الدعم السورى لحزب العمال الكردستانى وإيواء زعيمه عبد الله اوجلان الذى غادر تركيا منذ 1980 ولجأ الى سوريا، ودفعت تركيا بقواتها المسلحة الى الحدود المشتركة مع سوريا والتى تمتد لأكثر من 900 كيلو متر.
وروى عمرو موسى وزير الخارجية الأسبق وقائع العدوان التركى والتى عاصرها، حيث أكد فى مذكراته التى نُشرت مؤخرا أنه تلقى برقية من سفارة مصر فى أنقرة تؤكد أن تركيا على الاستعداد لتوجيه ضربة عسكرية وشيكه لسوريا، لافتا الى أنه على الفور أبلغ الرئيس الأسبق حسنى مبارك ليعطى ضوءا أحمر على سرعة التحرك لتوسط مصر فى الأزمة ووقف كارثة ستعصف بأمن واستقرار الشرق الأوسط.
وبدأت القاهرة على الفور للعب دورها المعتاد للدفاع عن الأراضى العربية حيث قام عمرو موسى باتصالاته مابين دمشق وأنقرة ليصل الرئيس المصرى خلال ساعات الى سوريا واجتمع بالرئيس السورى الراحل حافظ الأسد والذى رحب دون تردد بوساطة مصر لحل الأزمة، وعقب زيارة مبارك الخاطفة ابلغ موسى نظيره التركى اسماعيل جيم بأن سوريا ترغب فى إنهاء الأزمة.
الوفد العسكرى السورى يلتقى جمال عبد الناصر
وفى أكتوبر 1998 كان مبارك قد وصل أنقرة بعد انتهاء المباحثات على مستوى وزير الخارجية حيث ألتقى الرئيس التركى سليمان ديميريل، وظل الخلاف حول وجود أوجلان على الأراضى السورية قائما حيث أنكر الرئيس الأسد فى حين عرضت تركيا معلومات عن مكان سكنه فى دمشق، وقام مبارك بصحبته عمرو موسى بالتوجه من أنقرة الى دمشق لعرض المطالب التركية، وقال مبارك للأسد "نحن فرملنا انزلاق الأوضاع الى الحرب".
بالفعل بعد زيارات ماراثونية من كبير الدبلوماسية المصرية واتصالات على مستوى الرئاسة المصرية بين أنقرة ودمشق تم التوصل الى "إتفاق أضنة"، ونجحت مصر فى نزع فتيل الحرب مجددا بين سوريا وتركيا، لتستقر الأوضاع بين البلدين حيث عمدت تركيا الى استغلال القوى الناعمة لغزو الدول العربية بعد ان تيقنت فشل النظرية العسكرية، وحتى ثورات الربيع العربى واندلاع الأحداث فى سوريا 2011.
ما بين 1998 و2018 عشر سنوات تغير فيها الكثير دوليا وعربيا، ففى منطقتنا هبت خماسين الربيع العربى فأضعفت الأنظمة والجيوش والدول، وعاد حلم الخلافة يداعب مخيلة الرئيس التركى رجب طيب أردوغان بعد أن صعدت أحزاب الإسلام السياسى فى تونس ومصر للحكم، تلك الأحزاب التى يتواجد قلبها فى أنقرة وتمتد شرايين الدعم الى مختلف البلدان العربية.
وراح أردوغان يتحرك وكأنه ملك الوطن العربى شرقا وغربا وأصبحت الفرصة سانحة لإعادة أمجاد الباب العالى وبدأ الترويج لفكرة العثمانيين الجدد، إلا أن الرياح أتت بما لا يشتهى الرئيس التركى الإسلامى، حيث سرعان ما سقط الإخوان فى مصر وتونس وتعثروا فى ليبيا وسوريا فشعر "الأغا المدبوح" بانهيار الحلم وضياع الأمل، وأمام حالة اليأيس كشف أردوغان عن وجهه القبيح ولم يعد يخجل من جرائمه، وبنفس الحجج الواهية والحديث المتكرر عن دعم حكومة بشار الأسد للأكراد أعاد من جديد حشد القوات على الحدود، وبعد أكثر من عامين من التهديد قام بالفعل بالتوغل فى الأراضى السورية منتهكا حرمتها وراحت جنوده تنهش فى الجسد العربى حتى احتل "عفرين" السورية على مرأى ومسمع من المجتمعين العربى والدولى.
الرئيسان المصرى والسورى يوقعان اتفاق الوحدة
أسباب عديدة سمحت بتجرؤ أردوغان على السيادة العربية فى هذه المرة، فعربيا لم يعد الوطن العربى متماسكا أمام التحديات التى عصفت به خلال السبع سنوات الماضية، فالإرهاب اتخذ منه موطنا فى ظل دعم قطر له الأمر الذى دفع عواصم عربية لقطع علاقتها بالدوحة عقابا على إضرارها بالأمن القومى العربى، وهو الموقف الذى انقسم حول دعمه أو نقده بقية الدول العربية
عدم اجتماع العرب على موقف موحد تحولت جامعة الدول العربية الى اسم على غير مسمى، فيبدو أنها لم تعد تدافع عن السيادة العربية حيث ترى وتراقب الاحتلال التركى لسوريا دون أن تحرك ساكنا ولا حتى ببيان إدانة أو استنكار، على الرغم من أن ميثاقها يحتم عليها الدفاع عن دولها الأعضاء ضد أى عدوان، ولكن يبدو أن القائمين على بيت العرب نسوا أن سوريا عربية نظرا لتعليق عضويتها لما يقرب من سبع سنوات.
لقاء مبارك والرئيس التركى لبحث الأزمة
مصر المنشغلة فى حربها على الإرهاب الذى فجره الإخوان الإرهابيون والمنغمسة فى همومها الإقتصادية، لم تغفل الشقيقة سوريا والتى كانت يوما جزءا من أرضها ونادت وحدها بخطورة الاحتلال التركى لعفرين وما نجم عن العمليات العسكرية التركية في عفرين بشمال سوريا من انتهاكات في حق المدنيين السوريين وتعريضهم لعمليات نزوح واسعة ومخاطر إنسانية جسيمة.
مصر حاولت وتحاول التصدى لعدوانية تركيا سواء فى داخل مصر أو فى المنطقة العربية، ولكن فى ظل تحول المجتمع الدولى من هيمنة أمريكا الى نظام متعدد الأقطاب بعودة الدب الروسى، فيبدوا أن منطقة الشرق الأوسط ستظل لسنوات مسرحا لسباق النفوذ بين الجانبان، وهو ما يزيد المسألة تعقيدا.