أراجع منذ أسابيع تاريخ العلاقات المصرية الأمريكية، ما قبل وما بعد الرئيس ترامب، كثير من القرارات والمواقف التى اتخذها ترامب، رغم جموحها وتسارعها وغرابتها، فإنها تفرض إعادة قراءة المشهد مرة أخرى، والحقيقة أننى ألمس خللا فى الرؤية، واستعجالاً فى التقييم، وهرولة إعلامية وسياسية من جانبنا نحو تصنيفات «المؤامرة»، وسيناريوهات «المخطط العالمى»، ومسرحيات «لعبة الأمم»، وغيرها من التحليلات السهلة، والقراءات المتسرعة، التى ترتاح لأن تجعل من الولايات المتحدة «شيطانا» ونحن ملائكة، أو تجعل من أمريكا «ذئبًا» ونحن «غنما» فى حظيرة لا مخارج لها، ولا يشرق عليها الأمل.
فى حين أن ترامب نفسه تراجع عن مجموعة من القرارات والسياسات التى كنا نظن فى الماضى أنها مؤامرة واسعة المدى، ممتدة المفعول، ترامب كشف لنا أنها ليست سوى حسابات سياسية «وقتية» تتخذها الإدارة الأمريكية لتحقيق مصالح «حالية» للدولة، وحين تتغير المصالح تتغير القرارات، علنا وبوضوح ودون بروتوكولات سرية أو مخططات سينمائية أسطورية.
خذ مثلا:
كنا نصف مشروع منظمة التجارة العالمية بأنه مؤامرة أمريكية على العالم وخاصة بلدان الشرق الأوسط، ثم جاء ترامب ليكشف أن أمريكا تكبدت خسائر هائلة بسبب هذه المنظمة، ويتخذ الرئيس قرارات اقتصادية فى الاتجاه المعاكس تماما لما كنا نظن فى الماضى أنه مخطط واسع الحيلة وعميق التدبير، الآن يبدو لنا أنه لم يكن سوى تقدير موقف فى حسابات المصالح الأمريكية، تم استبداله وفق حسابات مصالح أخرى، وأن المؤامرة علينا لم يكن لها وجود لا فى الحالة الأولى ولا فى الحالة الثانية.
خذ مثلاً آخر:
حين أقدم باراك أوباما على توقيع الاتفاق النووى مع إيران، كان التحليل الأسهل، والنتيجة الأقرب للعواطف الجامحة أن قرار أوباما «مؤامرة» أمريكية على المنطقة العربية تجهز لها أمريكا منذ سنوات، ثم جاء ترامب ليلغى هذا الاتفاق بسهولة، ويعيد إيران إلى المربع رقم صفر!!
لو كانت مؤامرة مرتبة لاستكمل ترامب مسيرة أوباما تحت مظلة التخطيط الاستراتيجى للمؤامرات، لكن المسألة بكاملها لا تخرج عن نفس التحليل السابق فيما يتعلق بمنظمة التجارة، إدارة أمريكية تجرى حسابات للمصالح خاطئة أو صحيحة، ثم تأتى بعدها إدارة أخرى تعيد حسابات المصالح للدولة وتتخذ قرارات أخرى مؤيدة أو معارضة للقرارات الأولى.
لا مؤامرات هنا إذن!
ولا مخططات فى أسطورة لعبة الأمم!
ليس أكثر من دولة تبحث عن مصالحها المباشرة بعلنية كاملة، وحين تتغير مصلحة الدولة، تتغير القرارات وفق هذه المصلحة.
لماذا نلوم الولايات المتحدة إذن ونربطها بكل صور المؤامرات فى العالم العربى، فى حين أننا نكتشف لاحقا أن «المؤامرة الحقيقية» تتم بيننا فى الداخل، من إخوة لنا فى العروبة، أو شركاء لنا فى الدين والهوية والاعتقاد.
«لا أدافع هنا عن قرارات أمريكية، ولا شأن لى بذلك، ولا أبرئ هنا نوايا إدارة سابقة أو لاحقة فى البيت الأبيض، ولكن غايتى فقط هى تطهير الوعى العام المصرى من التحليلات الأسطورية التى لا تقدم ولا تؤخر، وترشيد المنطق السياسى الشعبوى من نظريات المؤامرة التى نستسهل الاتكاء عليها، ونستسلم لها، فنعجز عن الفهم، ونبايع الخرافة بلا معنى».
إن فهمنا الصحيح لمصالح دول العالم يساعدنا فى الداخل على اتخاذ القرارات الصحيحة فى العلاقات الدولية، لا نقبل أن تلومنا دولة ما ونحن ندافع عن مصالحنا، ولا نلوم أى دولة فى الدفاع عن مصالحها، ومهمتنا السياسية الأساسية هى الوصول للحلول الوسط بين مصالحنا ومصالح الآخرين.
أما التحليل الأسطورى، والاستسهال المؤامراتى، وخرافات التحليل الشعبوى فلا تشفى صدورنا ولا تحقق مصالحنا بأى حال.
طهروا عقول الناس من الخرافة.
واحترموا مصالح الأمم حتى تحترم هذه الأمم مصالحنا.
//
مصر من وراء القصد
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة