نستكمل اليوم حكاية الملك يونان والحكيم رويان، من حكايات ألف ليلة وليلة، التى تعد من أكثر الطقوس التى ارتبطت فى ذاكرتنا بشهر رمضان المبارك، ونقدمها فى سلسلة سحر الحكايات فى رمضان.
الليلة السابعة.. حكاية الملك يونان والحكيم رويان
وفى الليلة السابعة قالت: بلغنى أيها الملك السعيد أنه لما تكلم السمك قلبت الصبية الطاجن بالقضيب وخرجت من الموضع الذى جاءت منه والتحم الحائط، فعند ذلك قام الوزير وقال: هذا أمر لا يمكن إخفاؤه عن الملك، ثم أنه تقدم إلى الملك وأخبره بما جرى قدامه فقال: لا بد أن أنظر بعين، فأرسل إلى الصياد وأمره أن يأتى بأربع سمكات مثل الأول وأمهله ثلاثة أيام. فذهب الصياد إلى البركة وأتاه بالسمك فى الحال. فأمر الملك أن يعطوه أربعمائة دينار.
ثم التفت الملك إلى الوزير وقال له: سو أنت السمك هنا أمامى فقال الوزير سمعًا وطاعة، فأحضر الطاجن ورمى فيه السمك بعد أن نظفه ثم قلبه وإذا بالحائط قد انشق وخرج منه عبد أسود كأنه ثور من الثيران أو من قوم عاد وفى يده قرع من شجرة خضراء وقال بكلام فصيح مزعج: يا سمك يا سمك هل أنت على العهد القديم مقيم؟ فرفع السمك رأسه من الطاجن وقال: نعم وأنشد هذا البيت:
إن عدت عدنا وإن وافيت وافينا وإن هجرت فإنا قد تكافينا
ثم أقبل العبد على الطاجن وقلبه بالفرع إلى أن صار فحمًا أسود، ثم ذهب العبد من حيث أتى، فلما غاب العبد عن أعينهم قال الملك: هذا أمر لا يمكن السكوت عنه، ولا بد أن هذا السمك له شأن غريب، فأمر بإحضار الصياد، فلما حضر قال له: من أين هذا السمك فقال له من بركة بين أربع جبال وراء هذا الجبل الذى بظاهر مدينتك، فالتفت الملك إلى الصياد وقال له: مسيرة كم يوم، قال له يا مولانا السلطان مسيرة نصف ساعة.
فتعجب السلطان وأمر بخروج العسكر من وقته مع الصياد فصار الصياد يلعن العفريت وساروا إلى أن طلعوا الجبل ونزلوا منه إلى برية متسعة لم يروها مدة أعمارهم والسلطان وجميع العسكر يتعجبون من تلك البرية التى نظروها بين أربع جبال والسمك فيها على أربعة ألوان أبيض وأحمر وأصفر وأزرق.
فوقف الملك متعجبًا وقال للعسكر ولمن حضر: هل أحد منكم رأى هذه البركة فى هذا المكان، فقالوا كلهم لا، فقال الملك: والله لا أدخل مدينتى ولا أجلس على تخت ملكى حتى أعرف حقيقة هذه البركة وسمكها.
ثم أمر الناس بالنزول حول هذه الجبال فنزلوا، ثم دعا بالوزير وكان وزيرًا عاقلًا عالمًا بالأمور، فلما حضر بين يديه قال له: إنى أردت أن أعمل شيئًا فأخبرك به وذلك أنه خطر ببالى أن أنفرد بنفسى فى هذه الليلة وأبحث عن خبر هذه البركة وسمكها، فاجلس على باب خيمتى وقل للأمراء والوزراء والحجاب أن السلطان متشوش وأمرنى أن لا أؤذن لأحد فى الدخول عليه ولا تعلم أحد بقصدى، فلم يقدر الوزير على مخالفته.
ثم أن الملك غير حالته وتقلد سيفه وانسل من بينهم ومشى بقية ليله إلى الصباح، فلم يزل سائرًا حتى اشتد عليه الحر فاستراح ثم مشى بقية يومه وليلته الثانية إلى الصباح فلاح له سواد من بعد ففرح وقال: لعلى أجد من يخبرنى بقضية البركة وسمكها، فلما قرب من السواد وجده قصرًا مبنيًا بالحجارة السود مصفحًا بالحديد وأحد شقى بابه مفتوح والآخر مغلق.
ففرح الملك ووقف على الباب ودق دقًا لطيفًا فلم يسمع جواباً، فدق ثانيًا وثالثًا فلم يسمع جواباً، فدق رابعًا دقًا مزعجًا فلم يجبه أحد، فقال لا بد أنه خال، فشجع نفسه ودخل من باب القصر إلى الدهليز ثم صرخ وقال: يا أهل القصر إنى رجل غريب وعابر سبيل، هل عندكم شيء من الزاد؟ وأعاد القول ثانيًا وثالثًا فلم يسمع جواباً، فقوى قلبه وثبت نفسه ودخل من الدهليز إلى وسط القصر فلم يجد فيه أحد، غير أنه مفروش وفى وسطه فسقية عليها أربع سباع من الذهب تلقى الماء من أفواهها كالدر والجواهر وفى دائره طيور وعلى ذلك القصر شبكة تمنعها من الطلوع، فتعجب من ذاك وتأسف حيث لم ير فيه أحد يستخبر منه عن تلك البركة والسمك والجبال والقصر، ثم جلس بين الأبواب يتفكر وإذا هو بأنين من كبد حزين فسمعه يترنم بهذا الشعر:
لما خفيت ضنى ووجدى قد ظهر
والنوم من عينى تبدل بالسهر
ناديت وجدًا قد تزايد بى الفكر
يا وجد لا تبقى على ولا تذر
ها مهجتى بين المشقة والخطر
فلما سمع السلطان ذلك الأنين نهض قائمًا وقصد جهته فوجد سترًا مسبولًا على باب مجلس فرفعه فرأى خلف الستر شابًا جالسًا على سرير مرتفع عن الأرض مقدار ذراع، وهو شاب مليح بقد رجيح ولسان فصيح وجبين أزهر وخدًا أحمر وشامة على كرسى خده كترس من عنبر كما قال الشاعر:
ومهفهف من شعره وجبينه مشت الورى فى ظلمة وضياء
ما أبصرت عيناك أحسن منظر فيما يرى من سائر الأشياء
كالشامة الخضراء فوق الوجنة الحمراء تحت المقلة السوداء
ففرح به الملك وسلم عليه والصبى جالس وعليه قباء حرير بطراز من ذهب لكن عليه أثر الحزن، فرد السلام على الملك وقال له: يا سيدى اعذرنى عن عدم القيام، فقال الملك: أيها الشاب أخبرنى عن هذه البركة وعن سمكها الملون وعن هذا القصر وسبب وحدتك فيه وما سبب بكائك؟ فلما سمع الشاب هذا الكلام نزلت دموعه على خده وبكى بكاء شديداً، فتعجب الملك وقال: ما يبكيك أيها الشاب؟ فقال كيف لا أبكى وهذه حالتى، ومد يده إلى أذياله فإذا نصفه التحتانى إلى قدميه حجر ومن صرته إلى شعر رأسه بشر.
ثم قال الشاب: اعلم أيها الملك أن لهذا أمرًا عجيبًا لو كتب بالإبر على آفاق البصر لكان عبرة لمن اعتبر، وذلك يا سيدى أنه كان والدى ملك هذه المدينة وكان اسمه محمود الجزائر السود وصاحب هذه الجبال الأربعة أقام فى الملك سبعين عامًا ثم توفى والدى وتسلطنت بعده وتزوجت بابنة عمى وكانت تحبنى محبة عظيمة بحيث إذا غبت عنها لا تأكل ولا تشرب حتى ترانى، فمكثت فى عصمتى خمس سنين إلى أن ذهبت يومًا إلى الحمام فأمرت الطباخ أن يجهز لنا طعامًا لأجل العشاء، ثم دخلت هذا القصر ونمت فى الموضع الذى أنا فيه وأمرت جاريتين أن يروحا على وجهى فجلست واحدة عند رأسى والأخرى عند رجلى وقد قلقت لغيابها ولم يأخذنى نوم غير أن عينى مغمضة ونفسى يقظانة.
فسمعت التى عند رأسى تقول للتى عند رجلى يا مسعودة أن سيدنا مسكين شبابه ويا خسارته مع سيدتنا الخبيثة الخاطئة. فقالت الأخرى: لعن الله النساء الزانيات ولكن مثل سيدنا وأخلاقه لا يصلح لهذه الزانية التى كل ليلة تبيت فى غير فراشه.
فقالت التى عند رأسي: أن سيدنا مغفل حيث لم يسأل عنها. فقالت الأخرى ويلك وهل عند سيدنا علم بحالها أو هى تخليه باختياره بل تعمل له عملًا فى قدح الشراب الذى يشربه كل ليلة قبل المنام فتضع فيه البنج فينام ولم يشعر بما يجرى ولم يعلم أين تذهب ولا بما تصنع لأنها بعدما تسقيه الشراب تلبس ثيابها وتخرج من عنده فتغيب إلى الفجر وتأتى إليه وتبخره عند أنفه بشيء فيستيقظ من منامه.
فلما سمعت كلام الجوارى صار الضياء فى وجهى ظلامًا وما صدقت أن الليل اقبل وجاءت بنت عمى من الحمام فمدا السماط وأكلنا وجلسنا ساعة زمنية نتنادم كالعادة ثم دعوت بالشراب الذى أشربه عند المنام فناولتنى الكأس فراوغت عنه وجعلت أشربه مثل عادتى ودلقته فى عبى ورقدت فى الوقت والساعة وإذا بها قالت: نم ليتك لم تقم، والله كرهتك وكرهت صورتك وملت نفسى من عشرتك. ثم قامت ولبست أخفر ثيابها وتبخرت وتقلدت سيفًا وفتحت باب القصر وخرجت.
فقمت وتبعتها حتى خرجت وشقت فى أسواق المدينة إلى أن انتهت إلى أبواب المدينة فتكلمت بكلام لا أفهمه فتساقطت الأقفال وانفتحت الأبواب وخرجت وأنا خلفها وهى لا تشعر حتى انتهت إلى ما بين الكيمان وأتت حصنًا فيه قبة مبنية بطين لها باب فدخلته هى وصعدت أنا على سطح القبة وأشرفت عليها اذا بها قد دخلت على عبد أسود إحدى شفتيه غطاء وشفته الثانية وطاء وشفاهه تلقط الرمل من الحصى وهى مبتلى وراقد على قليل من قش القصب فقبلت الأرض بين يديه.
فرفع ذلك العبد رأسه إليها وقال لها: ويلك ما سبب قعودك إلى هذه الساعة كان عندنا السودان وشربوا الشراب وصار كل واحد بعشيقته وأنا ما رضيت أن أشرب من شأنك، فقالت: يا سيدى وحبيب قلبى أما تعلم أنى متزوجة بابن عمى وأنا أكره النظر فى صورته وأبغض نفسى فى صحبته، ولولا أنى أخشى على خاطرك لكنت جعلت المدينة خرابًا يصبح فيها البوم والغراب وأنقل حجارتها إلى جبل قاف.
فقال العبد: تكذبين يا عاهرة وأنا أحلف وحق فتوة السودان وإلا تكون مروءتنا مروءة البيضان. أن بقيت تقعدى إلى هذا الوقت من هذا اليوم لا أصاحبك ولا أضع جسدى على جسدك، يا خائنة تغيبين على من أجل شهوتك يا منتنة يا أخت البيضان.
قال الملك: فلما سمعت كلامها وأنا أنظر بعينى ما جرى بينهما صارت الدنيا فى وجهى ظلامًا ولم أعرف روحى فى أى موضع وصارت بنت عمى واقفة تبكى إليه وتتدلل بين يديه وتقول له: يا حبيبى وثمرة فؤادى ما أحد غيرك بقى لى فإن طردتنى يا ويلى يا حبيبى يا نور عينى. وما زالت تبكى وتضرع له حتى رضى عليها ففرحت قامت وقلعت ثياب ولباسها وقالت له: يا سيدى هل عندك ما تأكله جاريتك، فقال لها اكشفى اللقان فإن تحتها عظام فيران مطبوخة فكليها ومرمشيها وقومى لهذه القوارة تجدين فيها بوظة فاشربيها.
فقامت وأكلت وشربت وغسلت يديها، وجاءت فرقدت مع العبد على قش القصب وتعرت ودخلت معه تحت الهدمة والشرايط فلما نظرت هذه الفعال التى فعلتها بنت عمى وهممت أن أقتل الإثنين فضربت العبد أولًا على رقبته فظننت أنه قضى عليه.
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح، فلما أصبح الصباح دخل الملك إلى محل الحكم واحتبك الديوان إلى آخر النهار، ثم طلع الملك قصره فقالت لها أختها دنيازاد: تممى لنا حديثك، قالت: حبًا وكرامة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة