هناك مثل كل الناس تقريبًا تعرفه يقول: "تعرف فلان.. أعرفه.. عاشرته، لأ.. تبقى ما تعرفوش"، وهو هنا يتحدث عن مُعاشرة الناس، حتى تعرف طبائعهم، فتستطيع أن تحكم عليهم، ورغم قناعتى بصدق وحكمة هذه النظرية، إلا أننى أظن أنه من المستحيل أن تُعاشر كل من تُعاملهم؛ حتى تستطيع أن تحكم عليهم، ولكن هناك أمر بسيط للغاية، يُمكنك من خلاله أن تعرف من أمامك، وتحكم عليه طيلة العمر، وهو صدق العهود، فمن يصدق فى عهده، هو أشرف الخلق، ومن يحنث بها، فهو لا يستحق أن تُكلف نفسك عناء النظر إليه، فكم من أشخاص قد يقصون عليك تاريخهم الحافل بالأخلاق، والكفاح والعناء، لدرجة أنك تشعر بالرغبة فى الانحناء لهم، ولكن، هل سألت نفسك مرة، هل كل هذه الروايات صادقة أم لا؟ وهل فكرت أن تعرف آراء الآخرين فى هذا الشخص، فأنت اكتفيت بأن تسمع عن هذا الشخص من لسانه هو، فماذا تظن أنه سيقول عن نفسه، هل سيذُم فيها، بالطبع لا!
لكى تعرف من أمامك فى فترة قصيرة للغاية، جرِّبْ أن تضعه فى اختبار بسيط وهو أن يعاهدك على أمر ما أمام الله، وانظر ماذا سيفعل، فلو نفذ عهوده رغم كل شيء، ومهما كانت الصعوبات، فتيقن أنه شخص شريف؛ لسبب بسيط للغاية، أن العهود ليست إيصال أمانة، يخشى أن يسجن لو قدمته للنيابة، فالعهد لا رقيب عليه سوى الله وضميره، أما لو تنصل من عهده لأى سبب ، حتى لو ادعى أنها الظروف، أو أنه يهدف صالحك، أو أى سبب كاذب، يُحاول به تجميل صورته أمام نفسه، وأمامك، فلا تسمع له، وادفنه وهو حى، واعلم أن الله قد نجَّاك من شره.
فيُحكى أن أبا يزيد البسطامى الصُّوفي، أراد الذهاب إلى بغداد لطلب العلم ، فأعطته أمُّه أربعين دينارًا، هى ميراثه من أبيه، وقالت له: "ضع يدك فى يدى، وعاهدنى على التزام الصدق، فلا تكذبْ أبدًا"، فعاهدها على ذلك، وخرج مع قافلة يُريد بغداد، وفى أثناء الطريق، خرج اللصوص، ونهبوا كل ما فى القافلة، ورأوا البسطامى رَثَّ الثياب، فقالوا: "هل معك شىء ؟"، فقال: "معى أربعون دينارًا"، فسخروا منه، وحسبوا أنه أبله، وتركوه، ورجعوا إلى كهف ، كان به كبير اللصوص ، ينتظر ما يأتون به، فلما رآهم ، قال : "هل أخذتم كل ما فى القافلة؟"، فقالوا: "نعم ، إلا رجلاً سألناه ما معه، فقال: معى أربعون دينارًا، فتركناه، احتقارًا لشأنه، ونظن أن به خبلاً فى عقله"، فقال: "على به"، فلما حضر بين يديه، قال: "هل معك شيء"، فقال: "نعم، معى أربعون دينارًا"، قال: "أين هى؟"، فأخرجها، وسلمها له ، فقال كبير اللصوص : "أمجنون أنت يا رجل ؟ كيف ترشد عن نقودك، وتُسلمها باختيارك؟"، فقال له: " لما أردت الخروج من بلدى، عاهدت أمى على الصدق، فأنا لا أنقض عهد أمي"، فقال كبير اللصوص: "لا حول ولا قوة إلا بالله، أنت تخاف أن تخون عهد أمك، ونحن لا نخاف أن نخون عهد الله"، ثم أمر برد جميع ما أخذ من القافلة، وقال: "أنا تائب على يديك يا رجل" ، فقال من معه : "أنت كبيرنا فى قطع الطريق ، واليوم ، أنت كبيرنا فى التوبة ، تُبنا جميعًا إلى الله"، وتابوا توبتهم .
أرأيتم، كيف أن الوفاء بالعهود له فعل السحر، لذا، فلا تُجهد نفسك فى مُعاشرة الخلق، فلا أنت تملك الوقت، ولا هم سيُظْهرون كل ما بداخلهم، فعليكم بالوصفة السحرية، وهى العهود، لو وفَّوا بها، فاطمئن لهم وقدسهم، حتى بعد مماتهم، ولو حنثوا بها، وتنصلوا منها، فلا تُكلف نفسك عناء النظر إليهم، فهم أموات يرتدون زى الحياة .
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة