مواقف عديدة للقضاة الأوائل فى الإسلام، تحدوا خلالها الحكام والسلاطين بفتاوى وأحكام تشبثوا بها، ولم يتراجعوا عنها، أثرت سلبيا عليهم داخل المدينة أو الدولة التى كانوا يتقاضون فيها، حيث إنها أدت فى بعض الأحيان إلى إبعادهم عن المنصب، لكنها رفعتهم إلى عنان السماء كمثال للعدل.
من بين المواقف التى وقعت وتحدى القاضى الحاكم فيها موقف عز الدين بن عبد السلام، حينما رفض القيام بما يقوم به قضاة عصره ومشايخه وهو الدعاء للسلطان فى الخطبة، لاستعانته بالصليبيين فى الحكم، حيث خرج من دمشق إلى مصر على إثر ذلك، وحينما أرسل له السلطان رسولا ليقنعه بالعودة إلى دمشق وأن يقبل يد السلطان أيضا، فرفض قائلا: "يا مسكين، أنا ما أرضاه يقبل يدى فضلا عن أن أقبل يده، الحمد لله الذى عافانا مما ابتلاكم"، ورفض العودة معه.
القضاء فى الإسلام
موقف شيخ مشايخ الإسلام القاضى زين الدين الأنصارى كان مختلفا قليلا، حيث إنه وقعت حادث زنا، واعترف الزانى بما فعل وكان أحد القضاة الأربعة الذين حكموا برجم الزانى، وتم تأجيل تنفيذ الحكم حتى خروج الحجاج من مصر، إلا أن الزانى تراجع عن اعترافه فأفتى العلماء بعدم تنفيذ الرجم الأمر الذى أغضب السلطان كثيرا، وأمر بعقد مجلس قضاء موسع وحينما سألهم فى الرجوع عن قرار الرجم أكدوا أن هذا رأى الشرع، وأقر "الأنصارى" بصحة رأى العلماء لكنه رمى الكرة فى ملعب الحاكم، وقال إنه يمكن تنفيذ الرجم، معللا بأنه ولى الأمر، فرد عليه أحد الشيوخ بموافقته لكن بعدم مخالفة الشرع، ولو قام بقتل الزانى فيجب أن يؤدى دية القتل، فوجه السلطان السؤال لـ"الأنصارى" من جديد حول الواقعة فأقر كلام الشيخ فأعلن السلطان بعزلهم جميعا.
القاضى المنذر بن سعيد البلوطى كان له موقف شهير، حينما أراد الحاكم المستنصر أن يبنى قصرا لإحدى نسائه، وكان بجوار المكان دار صغيرة وحمام لأيتام يتبع القاضى وتحت ولايته، فطلب شراءه فقالوا له: "إنه لا يباع إلا بإذن القاضى"، فقال القاضى: "لا، إلا بإحدى ثلاث: حاجة الأيتام أو وهن البناء أو غبطة الثمن"، فأرسل الخليفة خبراء قدروها بثمن لم يعجب القاضى فأبى وأظهر الخليفة العدول عنها والزهد فيها، وخاف القاضى أن يأخذها جبرا فأمر بهدم الدار والحمام وباع الأنقاض بأكثر مما قدر الخبراء.
هارون الرشيد
القاضى نصر بن زياد كان له موقف شهير أيضا مع عبد الله بن طاهر القائد العباسى الشهير، حيث إن رجلا قدم شكوى إلى عبد الله بن طاهر القائد العباسى الشهير فى ذلك الوقت، فقال له: من خصمك؟ فقال الرجل: أنت أيها الأمير أصلحك الله، فقال: ما الذى تدعى عليه؟ قال: قطعة أرض لى فى هراة غصبها والد الأمير وهى اليوم فى يده، قال: ألك دليل أو بينة؟ فقال الرجل إنه سيعرض الدليل أمام القاضى فاستدعى الأمير عبد الله بن طاهر القاضى نصر بن زياد إليه وقال الأمير للرجل: ادع: فادعى الرجل حجته مرة بعد مرة، والقاضى لا يلتفت إليه ولم يسمع دعواه، ففهم الأمير أنه قد امتنع عن نظر الدعوة حتى يجلس الأمير مع الرجل أمامه فى مجلس الحكم متساويين، وحكم لصالح الرجل فى النهاية.
شريح بن الحارث بن قيس بن الجهم الكندى القاضى الفقيه الشاعر، كان له موقف مع الإمام على بن أبى طالب أثناء توليه منصب أمير المؤمنين حينما تنازع مع يهودى على درع، فاحتكما إلى "شريح"، وأراد "على" أن يشهد ابنه الحسن رضى الله عنه أن الدرع درعه، لكن قال شريح له يا أمير المؤمنين شهادة الابن لا تجوز، فرد علىّ متعجبا: سبحان الله رجل من أهل الجنة لا تجوز شهادته، فرد عليه شريح: يا أمير المؤمنين ذلك فى الآخرة، أما فى الدنيا فلا تجوز شهادة الابن لأبيه، فقال علىّ: صدقت ورد الدرع لليهودى، فقال اليهودى متعجبا: أمير المؤمنين قدمنى إلى قاضيه، وقاضيه يقضى عليه ونطق الشهادة فى الحال وأسلم، واعترف أن الدرع درع علىّ، وأنه سقط منه ليلاً، فأهداه له أمير المؤمنين.
صلاح الدين
أما القاضى إياس ابن معاوية فقضى فى أمر المهلب بن القاسم الهلالى حينما كان يشرب الخمر وطلب من زوجته أن تشرب معه فرفضت، فوضع أمامها كأسا منه وأقسم عليها: أنها طالق بالثلاث إن لم تشربه، وحاول بعض النساء أن يحملنها على شربه لكنها رفضت، وكان فى البيت طير ينام على بيضة ليفقس فمر الطير بالقدح فكسره، فحمدت الله أن خلصها من ذلك الزوج الشرير وطلبت أهلها فحولوها إليهم ولكن "المهلب" كذب وقال لم أطلقها، وذهب والده إلى عدى بن أرطاة والى البصرة ليحكم فأمر الوالى بردها إليه، لكن المرأة لم ترض بالقرار، فخاصمت زوجها إلى "إياس" وشهد أربع من النسوة بما حدث، فحكم بوقوع الطلاق لأنه كان يرى أن الطلاق الثلاث بلفظ واحد فى مجلس واحد يقع ثلاثا، وهو الرأى السائد فى الفقه على خلاف اجتهاد شيخ الإسلام ابن تيمية الذى يرى أنه لا يقع إلا طلقة واحدة رجعية، وقال لزوجها لئن قربتها لأرجمنك.
إفتاء القضاة تسبب فى مشاكل كبيرة لهم فعلى سبيل المثال حينما اعترض القاضى ابن دقيق العيد على أخذ السلطان أموال الرعية لمواجهة المنغول، واضطر السلطان أن يرضخ لكلام القاضى الشجاع ويأخذ أموال الأمراء قبل الرعية.
كما أن قاضى القضاة محمد بن يوسف بن يعقوب بن إسماعيل، المعروف بـ "القاضى أبو عمر"، سجن أبو عمر ليلة واحدة فى السجن، بسبب نكثه بيعة الخليفة، ورأى فى السجن ذبح اثنين من السجناء على يد حرس السجن، وأخرجه الوزير بن الفرات، واشترى ذنبه بـ100 ألف دينار، وحينما نظر إلى وجهه فى المرآة وجد أن الشعر الأبيض ظهر فى لحيته على الرغم من جلوسه فى السجن ليلة واحدة بسبب صعوبة ما تعرض له.
أما القاضى عافية بن يزيد القاضى فكان فى مجلس مع أمير المؤمنين هارون الرشيد، وكان الأمير يخاطبه على ما رفع إليه ضده، وخلال الانعقاد عطس أمير المؤمنين فشمته "أى قالوا له يرحمك الله" كل من كان فى المجلس إلا القاضى عافية، لم يقل مثلهم، وحينما سأله أمير المؤمنين لماذا تقل "يرحمك الله" كما فعل القوم، فقال له "عافية" لأنك لم تحمد الله، فلذلك لم أقل لك: يرحمك الله.
القاضى ابن عين الدولة كان أكثر تحديا للسلاطين، حيث كان من أشجع قضاة عصره، ومن بين أشهر المواقف التى تدل على ذلك أن الملك الكامل شهد أمامه فى حادثة ما، ورأى القاضى الشجاع أن الملك الكامل الأيوبى لا يصلح للشهادة وليس عدلا ثقة تؤخذ شهادته، وكان على القاضى ابن عين الدولة يرفض شهادته علنا فى مجلس القضاء، وذات مرة شتمه القاضى فاعتزل القضاء.
حكم الاتراك
أما القاضى سوار بن عبد الله بن قدامة، قاضى البصرة فأرسل إليه الخليفة أبو جعفر المنصور كتابا يقول له فيه: انظر الأرض التى تخاصم فيها فلان القائد وفلان التاجر، فأعطها إلى القائد، إلا أن "سوار" لم يأخذ بتوجيهات الخليفة وكتب إليه قائلا: إن البينة قد قامت عندى أنها للتاجر، فلست أعطها لغيره إلا ببينة.
قاض آخر له موقف مع السلطان ألا وهو القاضى البليغ عبد الرحمن بن زياد بن أنعم المعافرى الأفريقى، حيث إنه حينما ظهر بأفريقية ظلم من السلطان، فذهب "بن زياد" إلى السلطان، واشتكى العمال إليه من هذا الظلم، وأقام "بن زياد" بباب "أبى جعفر" شهرا ثم دخل عليه، فسأله السلطان ما الذى جاء بك، فرد عليه قائلا: ظهر الظلم ببلدنا فجئت لأعلمك لعل الظلم يخرج من دارك، فغضب السلطان غضبا كبيرا، وأمر بإخراجه من مجلسه.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة