لبنت البلد معادلة يصعب على كثيرات تحقيقها، مواصفات خاصة تبدو متناقضة من الصعب الإلمام بها فى شخصية واحدة، فهى البنت النغشة المحافظة، القوية، والصريحة حتى التجريح مع مراعاتها الشديدة لمشاعر الآخرين، هى الأنثى الجميلة الشرسة المهاجمة التى تحتوى وتغامر وتعتز وتثق وتمنح وتعافر وتناطح، لا تعرف الخجل أو الخنوع ولا تقبل الإهانة، والحقيقة أننا لو أردنا البحث عن نموذجا صريحا لشخصية «بنت البلد» لن نجد سوى تحية كاريوكا.
يتملكنى التردد وأنا أفكر فى كتابة هذه الكلمات عن تحية كاريوكا ضمن هذه السلسلة، فماذا سأضيف أنا بعد كل ما قيل وكتب عنها من كبار الكتاب والفنانين؟! لا لن أكتب عن تحية وسأختار شخصية أخرى لأبرز الخير والشر بها، لكن ما زالت تحية مادة خصبة، مازال هناك الكثير ليقال، وكلما تعمقت فى البحث والمعرفة عنها زادت التناقضات بداخلى، لن أكتب عنها، بل سأكتب عنها، لن أكتب، فماذا أقول أنا بعد ما قاله عنها موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب الذى شبهها بالعظيم سيد درويش وقال إنها استطاعت تحرير الرقص الشرقى من تأثير الأجنبيات مثلما فعل درويش فى الموسيقى، وإنها تستطيع فى مساحة لا تتجاوز المتر أن تمنحك كل ما لديها من حركة وإبداع دون الحاجة للتنطيط فى المكان، بماذا سأشهد لها بعد ما قاله عنها الباحث الدكتور جلال أمين الذى قال إن تحية ارتبطت ارتباطا وثيقا بتاريخ مصر نفسها وإن جسارة قلبها تدفعها للوصول بالشىء إلى منتهاه، ولكن يحميها ذكاؤها من الذهاب إلى أبعد من الحد المسموح به.
ولم تكن هذه هى الشهادات الوحيدة فى حق تحية، فقد امتدحها عدد كبير من المثقفين الكبار منهم عباس محمود العقاد وسليمان الحكيم وسلامة موسى ومصطفى أمين وصالح مرسى وإدوارد سعيد الذى كتب فيها مقالا أظهر فيه للعالم وقوعه فى غواية تحية بكل جوانبها الفنية والإنسانية والاجتماعية والثقافية، فقد أسرته كاريوكا كما أسرت عددا كبيرا من قبله، ونحن هنا لن نتناول سيرتها المنشورة فى مواقع المعرفة، فهى متاحة والجميع يعلمها ويعلم أن تحية ليس اسمها الحقيقى وأنه «بدوية» وولدت فى الإسماعلية وهربت من بيت أخيها الذى ربطها وحبسها لأنه كان يرفض عملها بالرقص كما كان يريدها خادمة لزوجته ثم قصة هروبها فى قطار ونزولها للقاهرة وعملها بالكباريهات حتى اكتشفتها بديعة مصابنى ودخلت فى فرقتها ثم أصبحت أشهر راقصة فى الفرق ثم فى مصر كلها واقتحامها مجال الرقص والتمثيل، لكن اللافت هنا أن تحية صارت أيقونة الرقص الشرقى، وقد استطاعت وفقا لشهادة عدد كبير جدا من كبار المثقفين أن تحرر الرقص الشرقى من الاستعمار الأجنبى، وأن تعود به لأصوله وهى المدرسة التى اعتمدتها، وهو ما يمكن التأكيد عليه من موقفها عندما قررت الاستعانة بمدرب رقص إسبانى يصمم لها رقصات شرقية خاصة، وقد يكون هذا هو السبب الذى جعلها الراقصة الأكثر طلبا خاصة لدى الملوك والأمراء، فلم يأت ضيف كبير إلى مصر إلا وكانت له زيارة فى كازينو بديعة لمشاهدة تحية وهى ترقص، ويقال إن الملك فاروق ذهب بنفسه لمشاهدتها، وبعد الانتهاء من الرقص داعبته قائلة: «جلالة الملك مكانك مش هنا.. مكانك فى القصر».
الحقيقة أن العظيم فى تحية لم يكن هذا الجانب الثقافى فى اعتزازها بالرقص وعدم الاستهانة به كفن وعدم استخدامه فى الابتذال، فكان هذا هو الحال وقتها فلا ينكر أحد أن الرقص الشرقى فى هذا الوقت والراقصات لم يكن مبتذلات بل كن معتزات بفنهن، لكن العظيم فى هذه السيدة ثلاثة أشياء أولها مواقفها السياسية وجميعنا يعلم أنها كانت يسارية، ولها العديد من المواقف السياسية الشهيرة، فقد أخفت رئيس مصر محمد أنور السادات فى منزلها ذات مرة بعد أن كان مطلوب القبض عليه، كما عرفت بهجومها على جمال عبدالناصر الذى أصدر قرارا باعتقالها بعد أن قالت جملتها «ذهب فاروق وجاءت فواريق»، فى إشارة منها إلى أن ثورة الضباط الأحرار لم تحقق مرادها، وأن أداء كل الملوك والحكام واحد، كما أنها قبل ذلك أخفت صلاح حافظ فى منزلها وقت أن كان صحفيا شابا، ولم تكتف بذلك فقد تدربت على حمل السلاح خلال عدوان 1967 وكانت تجمع التبرعات وقادت إضرابات نقابة المهن الفنية.
إلى جانب هذه المواقف السياسية التى تبرز ثقافة ووعى هذه السيدة هناك العديد من المواقف التى تبرز قدر اعتزازها بنفسها وفنها، وأنها حتى وإن عرف عنها أنها راقصة الملوك فهى غالية ولا ترقص أمام أى أحد، ولعل الدليل على ذلك هو رفضها الرقص أمام الزعيم التركى كمال أتاتورك فى بيروت لأنه أهان السفير المصرى، وكانت تحية حرة لا تقبل الإهانة على نفسها أو على غيرها من المصريين أو العرب، فيقال إنها كانت فى مهرجان «كان» السينمائى وضربت الممثلة سوزان هيوارد بالحذاء لأنها أهانت العرب، ولم تكن سوزان هى الأولى التى تنال من ضرب تحية فقد سبقها أحد أفراد العائلة المالكة، حيث أنهت تحية رقصتها، فقال لها «إنت يابت» فخلعت حذاءها وألقته فى وجهه رافضة أن يناديها «يابت»، وإن نظرت إلى هذه المواقف ستدرك قدر اعتزازها بنفسها، وأنها لم تكن تقبل الإهانة وأن اعتزازها وثقتها بنفسها وصلا لأبعد مدى.
خلاف كل هذا كان لتحية العديد من المواقف الإنسانية التى رأها عدد قليل من القريبين منها، ومنها أنها فى مرة كانت تجلس فى البلاتوه وكان بجوارها الفنانة العظيمة الراحلة شادية ووقتها كانت فى بدايتها وصغيرة فى السن، وكانت تبكى فسألتها تحية عن سبب بكائها فقالت شادية إن خطيبها مريض ومحجوز فى المستشفى وهى لن تستطيع الذهاب لرؤيته بسبب الشغل، فسألتها عن اسمه فأخبرتها شادية عن اسم خطيبها فى هذا الوقت فقامت تحية بإرسال بوكيه ورد بتوقيع شادية إلى المستشفى دون أن تخبرها، وهو الأمر الذى رفع من روح خطيبها المعنوية وأخذ بوكيه الورد ليتفاخر به ثم اتصل بشادية وشكرها بشدة على أنها لم تغفل عنه فعلمت شادية أن كاريوكا هى من قامت بذلك، هذا وإن دل يدل على مساحة الحب والإنسانية فى قلب هذه السيدة العظيمة، التى تزوجت أكثر من مرة قد تصل إلى أربعة عشر مرة وفقا لتصريح منها، فلم تقبل تحية أن تدخل فى علاقة غير شرعية مع أحد أياما كان، فكلما أرادت رجلا تزوجته، وأعلنت هذا صراحة دون خوف أو خجل، فهى لم تفعل ما يغضب ربها أو ما يجعلها تخجل أمام نفسها، لذا لم تخجل من الاعتراف بذلك، كما أنها لم تخجل يوما من أى رأى خاص بها، فقد عرفت أيضا بالآراء الصريحة والصادقة، فهى إن أحبت أعلنت وإن كرهت أعلنت، فلم تجامل أحدا، كما أنها كانت تكره تدخل المنتجين غير المثقفين أو على الأقل الذين لا يفهمون فى صناعة الفن وتعتبرهم آفة على الفن لأنهم ينتجون دون وعى ويهبطون بالذوق العام، وقد هاجمت العديد من المنتجين.
كل ما يمكن أن يقال حول إنسانيتها وأخلاقها وثقافتها ووعيها وصراحتها واعتزازها بنفسها وفنها وعروبتها وعن مواقفها الإنسانية وغيرها لا يمكن أن يفيها حقها، ويكفى أنها وبعد كل هذه النجاحات وكل الشهادات التى قيلت فى حقها وكل المجد الذى وصلت إليه قررت فى نهاية المطاف اعتزال الفن وارتداء الحجاب والعيش ما تبقى لها من حياة بعيدا عن الأضواء دون أن تخجل أو تستنكر فنها وظلت تقوم بعمل الخير حتى ماتت وحيدة فقيرة، تاركة خلفها كل هذه السيرة العظيمة لسيدة اعتزت بنفسها فصارت أيقونة فى الرقص والإنسانية والسياسة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة