تحول مسجد قرية دنشواى بمحافظة المنوفية إلى سجن فى نهار يوم 14 يونيو «مثل هذا اليوم عام 1906»، حيث ضم عشرات المتهمين المقبوض عليهم منذ أن وقعت الاشتباكات بين أهل القرية وضباط وجنود إنجليز جاؤوا إليها لاصطياد الحمام يوم 13 يونيو، حسب «مجلة المجلات العربية» فى عددها الخاص عن الحادث الصادر أول فبراير 1908، وتضيف، أن قرية «سرسنا» التى شهدت جانبا من الأحداث، نزل المحققون فيها وقبضوا على بعضهم ثم تحولوا إلى دنشواى، وتؤكد: «كان هناك مستشار وزير الداخلية ومدير المنوفية ورئيس النيابة ومفتش الداخلية ومأمور المركز وضباط كثيرون، وعدد وافر من بوليس المنوفية والغربية مسلحا بالبنادق والسونكى، وكانوا فى منزل الشيخ محمد الشاذلى عمدة دنشواى وعشرات من المتهمين، وبعضهم فى دوار العمدة، وبعضهم فى المسجد الذى حولوه إلى سجن فى هذا النهار».
بدأت المأساة بوصول نحو 150 ضابطا وجنديا من قوات الاحتلال الإنجليزى إلى منوف وكانوا فى طريقهم من القاهرة إلى الإسكندرية، وأبلغ خمسة منهم مأمور مركز منوف برغبتهم فى صيد الحمام فى دنشواى، المشهورة بكثرته، والتابعة لمركز الشهداء، طبقا لما يذكره «عبدالرحمن الرافعى» فى سرده للقصة فى كتاب «مصطفى كامل» عن «دار المعارف - القاهرة».
انقسم الخمسة ضباط إلى فريقين، فريق يصطاد الحمام من على الأشجار، وفريق يصطاده من أجران القمح، حيث كانت هذه الأيام هى أيام حصاد القمح، وفى جرن «محمد عبدالنبى» صوب ضابط بندقيته نحو حمامتين، فصاح شقيقه «شحاتة» محذرا، وصاح الشيخ الطاعن فى السن حسن على محفوظ محذرا: «متضربش نار، متضربش نار، الجرن هيتحرق»، لكن الضابط الإنجليزى لم يلتفت، وأطلق العيار نحو حمامتين تقفان على القمح، فأصاب «أم محمد» زوجة محمد عبدالنبى، لتسقط جريحة فى دمها، واشتعلت النار فى القمح الذى يملأ الجرن.
يضيف الرافعى: «أقبل الرجال والنساء والأطفال صائحين: «الخواجة قتل المرأة، وحرق الجرن»، وأحاطوا بالضابط، فجاء باقى زملائه لإنقاذه، وتصاعدت الأمور بوصول شيخ الخفر والخفراء لتفريق الجموع الغاضبة، لكن الضباط ظنوا بهم شرا فأطلقوا النار عليهم، وأصيب شيخ الخفر فى فخده واثنين آخرين منهم خفير، فصاح الأهالى: «شيخ الخفر اتقتل، شيخ الخفر اتقتل»، وهجموا على الضباط بالطوب والعصى مما أدى إلى إصابة الماجور «بين كوفين» قومندان الكتيبة، وجرح الملازمان سميث ويك، وبورثر، بجروح خفيفة، وأحاط الخفراء بهم، وأخذوا منهم أسلحتهم وحجزوهم إلى أن جاء البوليس وحملوهم إلى المعسكر».
شهدت «سرسنا» التى تبعد عن دنشواى نحو ساعة سيرا للراكب بتقدير «مجلة المجلات»، باقى فصول الحادث، مؤكدة أن الكابتن بول والطبيب البيطرى الإنجليزى تركا ميدان الواقعة فى دنشواى، وكان الأول قد أصيب إصابة شديدة، ثم أخذا يعدوان حتى قطعا نحو ثمانية كيلو مترات فى الحر الشديد، فلم يكد يصل باب سوق الشركة الكائن بعد سرسنا بمسافة قصيرة حتى وقع مطروحا على الأرض، ويقال إنه لما وقع الكابتن فى هذه النقطة تركه الطبيب البيطرى وأخذ يعدو حتى وصل إلى المعسكر ورمى بنفسه إلى ترعة الباجورية، وسبح حتى عبرها وصاح فى العساكر فخفوا بالقمصان والسراويل والأسلحة عدوا حتى وصلوا إلى سوق سرسنا فوجدوا الكابتن ملقى على الأرض وحوله بعض الأهالى فلما رأى هؤلاء العساكر دخلوا إلى السوق، فاهتم بعضهم بالمصاب وحملوه إلى المعسكر، وبعضهم اقتفوا أثر الهاربين فقبضوا عليهم وأوثقوهم كتافا وهم، حسين على الخولى ومحمد شبل سلطان ومحمد الديب ومحمد «خفير السوق»، وسيد أحمد سعيد، إلا أن هذا الأخير لم يتمكنوا من شد وثاقه لأنه هرب داخل السوق، واختبأ تحت الأرض فى فجوة طاحونة أعدتها الشركة لتجربة المواشى التى تباع وتشترى فى السوق، ولكن ذلك لم يمنع عنه القضاء المحتوم، فقد قتله الإنجليز شر قتلة حتى جعلوا أكبر قطعة فى رأسه كحجم القرش الصاغ».
يتذكر الرافعى: «كنت طالبا فى السنة الثانية من مدرسة الحقوق، وكنت أطالع نبأها فى اللواء «جريدة الحزب الوطنى»، وأدركت مبلغ هوان المصرى فى نظر الاحتلال، وتحققت ألا كرامة لأمة ولا لأى فرد من أبنائها بغير الاستقلال».
بدأ القبض على الفلاحين فور وقوع الحادث، وتواصلت حتى اليوم الثانى «14 يونيو»، وتذكر «مجلة المجلات العربية»: «لا يمكن حصر عدد النساء والبنات اللواتى كن منتشرات فى البلدة وبكاؤهن وصياحهن يحترق السبع الطباق، وكذلك اضطر المحققون إلى الانتقال من دنشواى إلى عزبة «حسين بك شعير» القريبة منها لمباشرة التحقيق فيها منعا للتشويش عليهن بذلك البكاء والصياح، لأن النساء كن يمثلن أكبر مأتم، وتضيف: «اتهم لغاية الآن 45 شخصا ضبط منهم 35 نفسا، وأرسلوا إلى سجن شبين الكوم بمديرية المنوفية».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة