في تمام الساعة الثامنة صباحًا تتسلل إلى أُذنك جمله تطفي عليك البهجة والتفاؤل، تُيقظك حتى من نومك على رائحة منعشة تجعل يومك مليء بالحيوية والنشاط، تسمع ذلك الرجل السبعيني "عبد المعز أدم" وهو ينادى ويقول" النعنااااااع البلدى النعناااااااع" لتهرول إلى شرفة نومك وتنظر إلى السماء فتجدها صافية بيضاء وتنظر للأرض فتجدها فرشت باللون الأخضر .
آتى عبد المعز إلى القاهرة من محافظة سوهاج قاصدً وجه رب ًكريمً، فقد ضاقت عليه الأرض من كثرة الديون، بعدما كان تاجر غلال كبير له كلمته التي يقف أمامها الجميع احترامًا، تبدأ حكايته بعد وفاة والده وهو في العقد الثاني من عمره، حيث ترك له 5 أخوات ذكور وبنتان، بالإضافة إلى 3بنات تركهم له عمه بعد وفاته، تحمل المسئولية في سنه الصغير فعَلم وزوَج أخواته وبنات عمه، من رأس المال حتى قرب على النفاذ فتوجه إلى الجمعية الزراعية لعمل مشروع تربية عجول ولكنه لم يُفلح فكثرت الديون وضاعت التجارة .
وما كان من إخوانه سوى التنصل من المسئولية فطلبوا الفصل وأخذ كل منهم حقه وتركوه وحيدًا ليسدد ديونه، لم يقدر عبد المعز على العيش في بلده منكس الرأس بعدما كانت في عنان السماء، فلملم أشيائه وأخذ زوجته وهاجر إلى العاصمة "القاهرة" بخفي حنين فارع اليدين لا يملك في حياته سوى 8 أولاد 4 ذكور و4 بنات، عازم النية على سداد الدين ورفع رأسه كما كانت وأكثر، فستأجر بيت صغير في منطقة حلوان وبدأ حياته الجديدة .
لم يجد مهاجر الصعيد سوى مهنة في نظر الآخرين بسيطة ولكنها شاقة للغاية "بائع النعناع" فيستيقظ من نومه عندما نخلد نحن للنوم في الساعة الواحدة صباحًا، فبعد تناول كوبًا من الشاي الساخن يتوكل على الله ويستقل إحدى المركبات ذاهبًا إلى منطقة المشابك بالجيزة في تمام الخامسة صباحًا؛ ليحضر 300 حزمة من النعناع الأخضر ويسير "كعب داير "على المقاهي والمحلات وربات البيوت الآتي تتهافت على الشرفات حين تسمع صوته ينادى " النعنااااااع البلدى النعناااااااع"، ذلك حتى الساعة الثانية عشر ظهر بعد أن يفرغ حمولته من تلك النبتة المنعشة؛ ليعود إلى بيته راضيًا بما قسمه الله له.
ظل عبد المعز على ذلك الحال طوال 42 عامًا حتى علم أولاده منهم ضابط شرطة واثنان موجهان عام في وزارة التربية والتعليم، وزوج بناته الأربع من أكبر عائلة في سوهاج، وكانت المفاجئة الكبرى التي أسعدته وأثلجت قلبه سداد أخر قسط لديونه في العام الماضى.
يقول عبد المعز : كل شيء تغير الأشياء، الشوارع ، الناس والضمائر ففي البادئ كانت الـ100 جزمه من النعناع 2 جنيه كنت أبيع الـ5 حزم بـ25 قرش، كنت أبيع للجميع، الكثيرين يعرفوني وينتظروني كل صباح منذ ما يقرب من 50 عامًا، لم أغير ما أفعله ألتزم وأحترم الجميع وأترك أمري لله؛ فأكرمني الله .
البشاشة والصفاء اللاتي في وجه ذلك المسن تطفي الأمل والتفاؤل على جميع، فما زال عبد المعز يحرص على ببيع النعناع حتى الأن منذ 42 عامًا، رغم زوال سبب هجرته من الصعيد إلى القاهرة، فلم يخلف معاده ينتظره الجميع في تمام الساعة الثامنة صباحًا وهو ينادى " النعنااااااع البلدى النعناااااااع".