«كن هادئا، إنك ستقتل رجلا».. هكذا جاءت آخر كلمات «جيفارا»، ونطق بها آمرا الذى سيطلق عليه طلقات الرصاص يوم 9 أكتوبر 1967، حسب اعترافات آخر من استجوبوه، وهو «فيليكس رودر يغيس» عميل المخابرات الأمريكية الكوبى الذى كان يعيش فى أمريكا ومن أشد المعارضين للزعيم الكوبى فيدل كاسترو، وأرسلته المخابرات إلى بوليفيا ليسهم فى إلقاء القبض على جيفارا الذى كان يقود حرب عصابات ضد حكم الرئيس البوليفى «رينيه باريينتوس»، ونجح فى مهمته وتم أسر جيفارا يوم 8 أكتوبر 1967، ونتيجة لدوره الثمين فى هذه العملية تمت الموافقة على طلبه بأن يقوم بالتحقيق معه.
حكى «رودر يغيس» قصة الساعات الأخيرة فى حياة جيفارا للصحفية والممثلة الأرجنتينية «أدريانا بيانكو» ونشرت مقتطفات منه جريدة «القدس العربى - لندن» يوم 31 أكتوبر 2017.. أكد أن المناضل الأرجنتينى تم نقله إلى مدرسة صغيرة متهالكة تقع فى مدينة «إيغيرا»، وحين تأكد بعد أسره أن ساعته أزفت، قال له: «أريد أن أسلم هذا الغليون لأحد الجنود البوليفيين الذى عاملنى بكرامة، فسلمه إياه، وطلب منه أن يبلغ رسالة إلى رفيقه فيدل كاسترو بأن يقول له: «قريبا سترى ثورة منتصرة فى أمريكا»، كما طلب منه أن يبلغ زوجته بأن تتزوج من جديد وأن تكون سعيدة، كما قال للذى أطلق عليه النار كلمته الشهيرة: «كن هادئا، إنك ستقتل رجلا». غادر «رودريغيس» الحجرة التى كان يجرى فيها التحقيق، ويتذكر أنه سمع صوت انفجار مكتوم، وكان الطلقات التى صوبها الضابط البوليفى «ماورو تيران» فى جسد جيفارا، ويضيف: «بعد ذلك التقطوا الصورة الشهيرة التى يظهر فيها ملتحيا يشبه السيد المسيح وعيناه مفتوحتان».
قوبل خبر موته فى البداية بعدم التصديق، يقول «فرانسوا ماسبيرو» الكاتب الفرنسى الذى كان قريبا من «فيدل كاسترو» فى مقدمة كتاب «يوميات بوليفيا الكاملة ترجمة «مصطفى الفقير» والصادر عن «دار الفارابى 1998»: «موت التشى قوبل فى البداية بعدم التصديق للقوة التى كانت تتمتع بها أسطورة استحالة النيل منه، كان على كاسترو بالذات أن يعلن النبأ من مذياع راديو «هافانا»، ويدعو الشعب إلى سهرة جنائزية فى ساحة الثورة كى يتأكد المشككون من صحة النبأ»، يضيف «فرانسوا»: «ظل حتى استشهاده إنسانا يتكون باستمرار وقارئا نهما، ففى عام 1965 وفى الأدغال الكونغولية كتب يقول: «الامتياز الوحيد الذى أسمح به لنفسى هو قليل من القهوة وقراءة كتب».
يحكى «رود يغيس» أنه تم حمل الجثمان إلى جهة غير معروفة لدفنه فيها، وظلت هذه الجهة غير معلومة حتى أواخر عام 1995 حيث كشف عنها الجنرال البوليفى المتقاعد «ماريو فارغاس» لـ«جون لى أندرسون» مؤلف كتاب «تشى جيفارا.. حياة الثورة»، مؤكدا أن الجثمان يقع بالقرب من مهبط الطائرات فى «فالليغراندي»، وأدى هذا الاعتراف إلى إجراء بحث دولى استمر أكثر من عام، وفى يوم 1 يوليو «مثل هذا اليوم عام 1997»، قام فريق من الجيولوجيين الكوبيين والأرجنتينيين والطب الشرعى، باكتشاف بقايا سبع جثث فى مقبرتين جماعيتين، بما فى ذلك رجل مبتور اليدين مثل جيفارا، وقامت لاحقا الحكومة البوليفية مع مسؤولين من وزارة الداخلية بالتعرف على جثة جيفارا عبر الأسنان، حيث كانت مطابقة تماما لقالب من الجص لأسنان «تشى» تم عملها فى كوبا قبل أن يرحل منها إلى الكونغو، وكانت النقطة الفاصلة التى حسمت الموقف كله هى العثور على حقيبة صغيرة من تبغ الغليون فى الجيوب الداخلية لسترة زرقاء كانت بجوار الجثة مقطوعة الأيادى، وكشف سر هذه الحقيبة قائد طائرة هليكوبتر كان هو الذى أعطاها له بعد القبض عليه، وسؤاله عن الدخان.
فى يوم 17 أكتوبر 1997 تم دفنه مع ستة من رفاقه المقاتلين ومنحهم مرتبة الشرف العسكرية، وذلك فى الضريح الذى تم بناؤه خصيصا فى مدينة «سانت كلارا» بكوبا، ومع العثور على الجثة ثم إعادة دفنها، كانت سيرة صاحبها كمناضل تتجدد، وفيها الكثير مما يقال، كنظرته إلى الموت والحياة.. يقول فى كتابه «أحلامى لا تعرف الحدود»: «لا يهم أن يفاجئنا الموت، مرحبا به، شرط أن تسمع الحرب التى نطلقها»، وفى آخر رسائله لكاسترو قال: «إما أن ينتصر الإنسان أو أن يموت»، وقال لجمال عبد الناصر فى لقائهما أثناء زيارته الثانية إلى مصر عام 1965 وفقا لمحمد حسنين هيكل فى كتابه «عبد الناصر والعالم»: «نقطة التحول فى حياة أى إنسان تحل فى اللحظة التى يقرر فيها أن يواجه الموت، فإذا قرر أن يجابه الموت يكون بطلا سواء نجح أم أخفق، إن فى وسع الإنسان أن يكون سياسيا صالحا أو رديئا، ولكن إذا كان لا يستطيع أن يواجه الموت، فإنه لن يكون أكثر من مجرد رجل سياسى».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة