تحتفى "نيويورك تايمز" بقصة منزل معمارى مصرى تراثى، يقع فى حى الزمالك، والذى تروى تفاصيله الكاتبة المصرية ياسمين الرشيدى، وهى صحفية فى "نيويورك ريفيو أوف بوكس"، ومحررة للفنون والثقافة فى الشرق الأوسط، وتعيش فى القاهرة.
تقول ياسمين الرشيدى، قضيت الأيام الثلاثة للانتخابات الرئاسية فى مصر فى أواخر شهر مارس الماضى، مع أخى فى منزلنا الذى تربينا فيه طوال حياتنا، وهو عبارة عن فيلا تتضمن 22 غرفة، شيدتها جدتى فى القاهرة عام 1940 على ضفاف نهر النيل، هذا المكان ولدت فيه أمى وعاشت حياتها كلها وأنا كذلك.
وكانت جدتى عصمت قد حلمت بمنزل يصمد ويعيش لكل الأجيال، وفى عام 1938 اشترت الأرض، وبعد ذلك تم تشييد السياج الخرسانى والمعدنى، ومن ثم شيد المنزل فى جزيرة الزمالك، وكانت حديقة المنزل مزروعة بأشجار المانجو والتين والزيتون، وهى أشجار تعطى دلالة أن البيت سيعيش أكثر.
الكاتبة تلقى نظرة عامة على مصر التى دخلت فى عشرينيات القرن الماضى بقوة إلى قلب الحداثة، وأصبح هناك جيل مختلف فى الوسط المصرى، كانت جدتها نتاجه فتصفها بأنها "ذات فكر نسوى وميول سياسية واضحة وقوة إرادة" وقد قامت فى نهاية الثلاثينيات بتكليف المهندس على لبيب جبر بتصميم المنزل تحت إدارتها.
والمهندس لبيب جبر قام بتصميم الأرضيات متعددة الطوابق والأبواب المصنوعة من الخشب والزجاج، إضافة إلى نوافذ الصغيرة من مختلف الأشكال والتكوينات، كما أن هناك غرفتين كبيرتين مزخرفين.
وبعد ذلك، فى السنوات الأخيرة، تم توثيق المنزل وإدراجه جزءًا من التراث المعمارى للمدينة، بحيث لا يمكن تغييره أو هدمه قانونيًا، لأنه أصبح معلمًا فى حى الزمالك.
وتقول ياسمين: تم تقسيم المنزل إلى طابقين، وانتقلت أمى وهى أصغر أشقائها إلى الجانب الجنوبى للمنزل وهى غرفة النوم التى ولدت بها، أما أنا فنشأت فى الطابق العلوى مع والدى وأخى الأكبر، قضيت أنا وأخى فى المنزل كما لو كنا نعيش وحدنا، ركضنا صعودًا ونزولاً فى المنزل، ولعبنا لعبة "الاستغماية" فى كل مكان.
وتقول ياسمين: "اتخذنا الطابق السفلى لعمل التجارب العلمية، وأخى قام بعمل حديقة حيوان مصغرة على السطح، كانت فيها "غزلان وأرانب وحمام ودجاج وببغاوات" لقد أمضينا ساعات طويلة تصل لأسابيع من حياتنا ننقر على الجدران والأرضيات والخطوات بحثًا عن صدى قد يكشف عن تجويف بعدما انتشرت بيننا شائعة بأن جدتى خبأت كنزا خلف الجدران.
وبعد وفاة جدتى فى عام 1984، وبعد سنوات قليلة من حكم الرئيس حسنى مبارك الذى دام ثلاثة عقود، علمت أن المنزل لن يكون أبدًا لنا، لأنه حسب قوانين الشرع الإسلامى فإن "خالى" حصل على الجزء الأكبر من أكثر من أمى.
وفى هذه السنوات تم بيع وهدم فيلات مجاورة أخرى، وتغير منظر المدينة حولنا بشكل كبير، وتمت محاولات للاستيلاء على بيتنا بعد ذلك - ليس لقيمته المعمارية، ولكن لأن البعض رأوا أنه موجود على أرض مهمة مطلة على نهر النيل، ومن هنا صارت مهمة أمى الحفاظ على المنزل ونجحت فى ذلك على مدى 30 عامًا.
خلال هذه الفترة انتقلت إلى الطابق السفلى الذى كانت تسكن فيه جدتى، وأصبحت مهمتى أنا وأخى حماية المنزل بأنفسنا، لذا بحثنا على نطاق واسع عن رعاة كى يقوموا بتحويله إلى مركز ثقافى أو مكتبة أو متحف، ولكن جاء ذلك دون جدوى، فرجال الأعمال المصريين ورعاة الثقافة عازمون على الاستثمار فى مشاريع جديدة وضواحى ومنازل حديثة بملايين الدولارات، ويبتعدون عن المنازل التاريخية والتراثية الموجود بالفعل هناك.
وتتابع: عشنا لمدة 30 عامًا وكل يوم تقريبا يقوم وكلاء العقارات يدقون جرس الحديقة لشراء البيت، لكننا أفشلنا كل الصفقات، ومن أجل ذلك كتبت روايتى "البيت" التى صدرت عام 2014، فالمنزل الشىء الوحيد فى حياتى الذى لم يتغير، حيث كانت عائلتنا هى آخر العائلية التى لا تزال يسكنها أصحابها الأصليون.
وفى الأول من (أبريل)، وهو اليوم الذى تم فيه تأكيد إعادة انتخاب الرئيس عبد الفتاح السيسى، سلمنا البيت إلى أصحابه الجدد، وقد وجدت والدتى فى آخر الأمر مشتريها، وهى امرأة شعرت أنها ستكون ثانى أفضل حارس للبيت وإرثه، ومشينا عبر كل غرفة معا فى ذلك اليوم الأخير، وبمجرد أن تم التوقيع على أوراق التسليم فى الحديقة، عدت لمشاهدة غرف المنزل وقمت بإغلاق جميع الأبواب والنوافذ والستائر، ثم أخرجت نفسى من الباب الرئيسى وأغلقت من خلفى.
تقول ياسمين الرشيدى: "تلك هى اللحظات النهائية التى تجولت فيها بالمنزل والذى استمر قرابة 80 عامًا من التاريخ العائلى، وأصبح المنزل الآن ملكًا لـ آخرين، لكن حرصت أمى على السكن فى شِقة جديدة تطل على حديقتها القديمة من شرفتها، أما الملاك الجدد فلم يتجولوا فى الفيلا بعد، فهم يشغلون الطابق السفلى المنزل، ويقضون أيامهم جالسين على كراسى الحديقة البلاستيكية التى تركناها وراءنا، بينما لا تزال الستائر البيضاء فى الغرف العلوية معلقة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة