بعد ساعات قليلة من تلقى الرئيس جمال عبدالناصر برقية من الرئيس اليوغسلافى تيتو تناشده العودة إلى أقرب ميناء يوغسلافى، وألا يستكمل رحلة عودته إلى الإسكندرية عن طريق البحر «راجع - ذات يوم 15 يوليو 2018»، جاء قارب آخر من المدمرة 62 إلى الباخرة «الحرية»، يحمل رسالة أخرى من تيتو إلى عبدالناصر، حسب محمد حسنين هيكل فى كتابه «سنوات الغليان»، وكان مرافقا لعبدالناصر فى هذه الرحلة.
نصت الرسالة: «أرجوكم أن تتركوا الباخرة الحرية، لأنها بطيئة، وأن تنتقلوا إلى إحدى مدمراتكم لتصلوا إلينا فى ظرف ثمانى ساعات - أعرف أن مكتب الاتصالات والشفرة على «الحرية» مهم لكم فى هذه الظروف - طلبت من البحرية اليوغسلافية أن تضع تحت تصرفكم طائرتين حربيتين من طائرة الانزلاق على الماء، ليكون من ذلك خط مواصلات دائم بينكم وبين «الحرية» طوال ساعات رحلتكم بالمدمرة السريعة إلى بريونى - أتطلع بشوق أن أراك مساء اليوم».
هكذا كانت الأحداث تمضى يوم 16 يوليو «مثل هذا اليوم 1958» وفقا لهيكل، مؤكدا أن مكتب الاتصالات والشفرة على الباخرة كان يتلقى رسائل تشير كلها إلى إعلان حالة الطوارئ فى كل القواعد الأمريكية بالبحر الأبيض وأوربا الغربية، وتحركات للقوات البريطانية برا وبحرا على القوس الممتدد من جبل طارق إلى عدن، بعد قيام الثورة العراقية ضد الحكم الملكى يوم 14 يوليو 1958.
وبشهادة هيكل: «كان عبدالناصر يقرأ كل هذه الرسائل باهتمام، وفى بعض هذه اللحظات بدا أنه منشغل بفكرة تجول فى خواطره»، ويضيف هيكل أنه والدكتور محمود فوزى فوجئا بالرئيس يقول لهما إن لديه فكرة تلح عليه منذ أن تلقى رسالة تيتو الأولى عن مخاطر العودة بالبحر، وعن الطائرة عظمية السرعة التى يمكن أن تنقله إلى القاهرة، وهى أن يذهب بالطائرة السريعة إلى موسكو فى زيارة سرية، يلتقى فيها بالقادة السوفيت لكى يتعرف مباشرة على نواياهم فى حالة تفاقم الأزمة ووصولها إلى حد استعمال القوة المسلحة.
يضيف هيكل: كان تقديره «عبدالناصر» أن دخول الولايات المتحدة إلى منطقة العمل المسلح يصنع موازين تختلف عما كان عليه الحال فى وقت السويس، ومن الضرورى لنا أن نعرف مبكرا نوايا السوفيت حتى تكون حساباتنا على أساس سليم، وكان سؤاله بعد ذلك عن رأينا فى اقتراحه وأن نتدبر الأمر معا، ونعود إليه».. يؤكد هيكل أنهما عاد إلى عبدالناصر، وقال محمود فوزى له: «الكفتان متساويتان، وأعتقد أنك وحدك بحكم مسؤوليتك تستطيع الترجيح بينهما»، وبقى عبدالناصر صامتا لدقيقة بدا وكأنها زمنا طويلا، ثم كان قراره «أن نتوكل على الله ونذهب».
وفى موسكو التقى السفير اليوغسلافى بالزعيم السوفيتى «خرشوف» بناء على طلب عاجل لتسليم رسالة من الرئيس تيتو تتضمن سؤالا: «هل من الممكن أن تضعوا طائرة نفاثة من طراز «يو 104»، تحت تصرف الرئيس عبدالناصر لكى يعود بها إلى القاهرة، فورا نظرا لاستحالة تقدمه عبر البحر المتوسط بسبب مخاطر أزمة الشرق الأوسط خصوصا بعد تدخل الولايات المتحدة عسكريا فى لبنان، إن الـ«تى يو» تستطيع قطع المسافة من مطار بولا إلى القاهرة فى ثلاث ساعات، وهذه مسافة مقبولة فضلا عن أن كل الأطراف التى اشتد غضبها فى البحر الأبيض سوف يفكرون مرات قبل أن يهاجموا طائرة سوفيتية على فرض أنهم اكتشفوا حقيقة ركابها».. رد خروشوف على السفير: «دعنى أصحح معلوماتك، طائراتنا ال تى يو 104 معجرة علمية، وهى قادرة على قطع المسافة من بولا إلى القاهرة فى ساعتين فقط»، ثم أضاف أنه سيأمر بإقلاع الطائرة فورا إلى مطار بولا فى ظرف عشر دقائق، وعن طريق تيتو تم إرسال برقية من عبدالناصر إلى خرشوف، وكان نصها: «اقترح قبل أن أعود إلى القاهرة أن التقى بكم فى أى مكان يناسبكم، إننى الآن فى طريقى عائدا إلى بريونى، وأمل عندما أصل إليها أن أجد ردا منك ينتظرنى».
يضيف هيكل: «وصلت المدمرة «الناصر» إلى جزيرة بريونى، واتجهت بعيدا عن الميناء نحو خليج عند الطرف الشرقى لها، وهناك التقاها قارب سريع نقل ركابها إلى الشاطئ، وكانت تقف على رصيفه سيارات حملت الجميع إلى فيلا «بيانكا» مقر إقامة تيتو الذى وقف على بابها ينتظر عبدالناصر ومعه أربعة من مساعديه، ثم جلس الفريقان يستعرضان آخر التطورات، ودعا الجميع إلى عشاء سريع».. وبعدها أقلعت الـ«تى يو 104» بعبدالناصر ومرافقيه إلى موسكو للقاء خرشوف سرا، وهبطت الطائرة فجر يوم 17 يوليو 1958.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة