الحديث عن الزئبق الأحمر لا ينتهى، لكنه عاد بقوة خلال الأيام الماضية، بعدما تم فتح تابوت الإسكندرية، وتبين وجود مادة سائلة حمراء، اعتقد البعض بمجرد ظهورها إنها مادة الزئبق الأحمر الشهيرة، لكنَّ مسئولي الآثار نفوا ذلك بعدما تم استخراج التابوت، وأوضحوا أنها مجرد مياه صرف صحى، تسربت إلى داخل التابوت.
لكن لماذا يهتم البعض بالزئبق الأحمر بهذه الطريقة؟ البعض يعتقد أن لهذه المادة مفعول كبير فى زيادة القدرة الجنسية لدى الرجال، أو مساعدة الدجالين والمشعوذين فى تسخير العفريت والجان من أجل استخدامها فى أعمالهم، كما يشاع استخدامه فى عمليات ذات صلة بالانشطار النووى.. لكن ما حقيقة كل ذلك؟
يعرف الزئبق فى الأساس بأنه مادة كيميائية تحمل الرمز Hg، وعدد الذرى 80، وهو سائل فضى اللون كثافته الكتلية 13.54 سم، وأنه يمكن أن يكون بشكل مركبات عضوية وغير عضوية، وبحسب كتاب "كيمياء المواد الخطرة صفحة (79)" للكاتب عذاب طاهر الكنانى، أنه مادة سامة توثر على الجهاز العصبى، يشكل أكبر ملوث لمياه المحطات والبحار والأنهار، وأنه سبب جزءا كبيرا من تلوث الطبيعة البحرية، ويستخدم فى أكثر من ثلاثة آلاف تطبيق صناعى.
لكن الزئبق الأحمر الذى نتحدث عنه اليوم هو السائل الأحمر الفرعونى، والذى ظهر اسمه على مسرح الحكايات والأسرار فى أربعينيات القرن الماضى، حينما تم اكتشاف زجاجة فى مقبرة "آمون تف نخت" قائد الجيوش فى عصر الأسرة السابعة والعشرين، حيث اكتشف الأثرى المصرى زكى سعد بداخل الزجاجة سائل لزج ذو لون بنى يميل إلى الأحمرار، وتم حفظها فى متحف الأقصر حتى الآن وتحمل ختم الحكومة المصرية، ومنذ تلك التوقيت بدأ الكلام عما يسمى الزئبق الأحمر الفرعونى.
وبحسب ما ذكره الكاتب والباحث سميح القلاف، فى دراسة له فى جريدة النهار اللبنانية، فإن هذه المقبرة وجـدت بحالتها ولم تفتح منذ تم دفنها، وعندما تم فتح التابوت الخاص بالمومياء الخاص بـ"آمون تف نخت"، وجد بجوارها سائل بـه بعض المواد المستخدمة فى عملية التحنيط وهى عبارة عن "ملح نطرون، ونشارة خشب، وراتنج صمغى، ودهـون عطرية، ولفائف كتانية، وترينتينا".
ونتيجة إحكام غلق التابوت على الجسد والمواد المذكورة، حدثت عملية تفاعل بين مواد التحنيط الجافة والجسد، أنتجت هذا السائل الذى وضع فى هذه الزجاجة، وبتحليله وجـد أنـه يحتوى على "86.90 فى المائة" سوائل آدمية "ماء، دم أملاح، أنسجة رقيقة" و"36.7 فى المائة" أملاح معدنية "ملح النطرون" و"12.0 فى المائة" محلول صابونى و"01.0 فى المائة" أحماض أمينية، و"65.1 فى المائة" مواد التحنيط "راتنج، صمغ + مادة بروتينية".
إلى الآن لا توجد أزمة، لكن ما الذى جعل هذا السائل ينتشر بين المصريين، وتدور عنه الحكايات والأساطير، بحسب دراسة بعنوان "حقيقة الزئبق الأحمر الفرعونى كيف ظهر؟ ودليل وجوده" للباحث الأثرى أحمد السنوسى، نشره موقع "حراس الحضارة" المتخصص فى أبحاث ومقالات فى الآثار والسياحة، فإن القصة بدأت عام 1968، حينما وقع فى يد الصحفى الإنجليزى يدعى "جوين روبرتس" تقرير سرى، كان قد أعد لصالح رئيس الاستخبارات الروسية آنذاك والذى عين فيما بعد وزيرا للخارجية "يوجينى"، وكان ملخص التقرير هو اكتشاف مادة تبلغ كثافتها 23 جرامًا وكانت أعلى درجة كثافة لأى مادة أخرى فى العالم.
أحدث ذلك التقرير ضجة فى القارة الأوروبية، وأعتقد أن هذه المادة يمكن استخدامها بدلاً من البلوتونيوم (أحد العناصر القابلة للأنشطار النووى النقى)، والذى تبلغ كثافته 20 جرامًا فقط، لذا فإن المادة نادرة وثمنها سيصل إلى ملايين الدولارات، وأعتقدوا أنهم عثروا على الزئبق الأحمر، ذلك السائل الذى اكتشفه المصريون قديمًا، وبأمر من الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، وجدوا أن هذه الزجاجة تحتوى ليست على الزئبق بل هى مواد استخدمت فى تحنيط القائد آمون تف عنخ، وتضم المواد السابق ذكرها.
لكن كعادة المصريين صنعوا حول تلك المادة الحكايات وانتشرت الأقاويل، حتى أمر "ناصر" بحفظ الزجاجة بمتحف الأقصر، ووضع عليها شعار الجمهورية، ومن هنا بدأ اختلاق أحاديث وقصص وهمية ليس لها علاقة بالتاريخ على الإطلاق.
الشائعات كثيرة والحديث عن معجزات ذلك الزئبق الوهمى، كبيرة، وربما كان الدكتور زاهى حواس، عالم الآثار المصرى ووزير الآثار الأسبق، أكثر الذين نوهوا عن وهم الزئبق الأحمر، وعدم وجوده تاريخيًا، كما كانت له عدة كتب ودراسات تناولت ذلك الأمر، من بينها كتابه "جنون اسمه الفراعنة"، والذى أكد أن صحة الزجاجة الموجودة فى متحف التحنيط بالأقصر، لكنها ليست زئبق أحمر، لكنه مجرد سائل أحمر من مخلفات عملية التحنيط، التى يبدو أنها فى حالة "آمون تف نخت"، قامت على عجل لهذا المومياء، وعند إحكام غلق التابوت وبفعل الحرارة والتفاعلات الكيميائية تحولت بعض بعض المواد إلى هذا السائل التى تم تجميع فى الزجاجة، وقد أجريت عليه عدة أبحاث واتضح أنه مزيج من المياه والراتنجات المذابة وغيرها من مواد التحنيط.
الدكتور زاهى حواس، أيضًا فى كتابه تحدث عن بعض الحوادث وعمليات النصب التى جاءت تحت غطاء الزئبق الأحمر الفرعونى صاحب المعجزات، ومنها خروج ثلاث شبان من عائلة واحدة للبحث عن الزئبق فى أحد جبال أسوان، حيث قاموا بالحفر أسفل أحد الجبال بعدما أخبرهم أحد المشعوذين بوجود مومياوات وزئبق أحمر فى المكان، وبينما هم منهمكون فى الحفر وأحلام الثراء تدور بمخيلتهم، ينهار جزء من الجبل عليهم واضعًا نهاية مأساوية لحياة هولاء الشبان الذين كانوا يسعون وراء ثراء زائف.
وروى حكاية أحد الأثرياء العرب، الذين جاءوا من أجل الحصول على الزئبق الأحمر معتقدًا بأنه يمتلكه فى مكتبه وعرض عليه مبالغ طائلة، معتقدًا أنه هو نفس الشخص الذى قرأ عنه فيما بعد أن أحد النصابين طلب من أحد الأثرياء العرب 27 مليون دولار للحصول على سائل الزئبق، ولكى يعاين هذا الثرى فقط الزئبق الأحمر كان عليه دفع 5 ملايين دولار، وقامت الشرطة بالقبض على النصاب الذى ادعى أنه على صلة بشخص يعمل فى صحراء الجيزة واستطاع أن يكشف عن الزئبق داخل مومياء استخدمها فى السيطرة على الجان والحصول على الكنور، وتم قيد القضية جنحة نصب فى قسم الشرطة.
حواس لم يتوقف عند هذا فقط، بل وصل بأنه فسر وجود مومياوات مدمرة حتى الآن، قال إن القصص الوهمية عن الزئبق دفعت المواطنين الذين يعيشون فى الوادى الجديد وصحراء مصر الغربية البحث إلى البحث عن مومياوات العصر المتأخر والموجود فى كل مكان وبآلالاف، فكانوا يخرجون ليلاً ويحملون المومياوات خفية على عرباتهم ويقومون بتمزيق لفائفها وويفصلون رءوسها بحثًا عن الزئبق فى حناجرها، ولم يكن أى إنسان أو باحث يعرف سبب ما يحدث للموامياوات حتى عرفنا السبب بعد انتشار خرافة الزئبق الأحمر.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة