«زوبعة على الكورنيش» خرجت ولم تعد.. ولوحة «ذات العيون الخضراء» ليست مزورة.. لوحة «ذات المنديل الأخضر» موجودة فى الفاتيكان.. و«الكتالوج المسبب»: «الفتاة الإسبانية» معروضة فى متحف محمود سعيد خطأ
الفن التشكيلى عالم كبير، ووراء هذا العالم الناعم المتشكل من المشاعر والألوان والمدارس الفنية المختلفة، يوجد عالم آخر من النصب والاحتيال والسرقات، عالم آخر بمعنى الكلمة، تديره «مافيا» متعددة الجنسيات، متعددة الاهتمامات، متعددة الاتجاهات، والمؤسف فى هذا الأمر ليس وجود الجرائم فى حد ذاتها، فالجرائم قديمة قدم الإنسان ذاته، لكن ما هو جديد أن تتورط دول فى هذه الجرائم، وأن تفتح متاحفها وقاعاتها للوحات مسروقة من متحف دولة أخرى، ضاربة عرض الحائط بكل قوانين الملكية الفكرية، وكل أخلاقيات الفن على حد سواء، والمؤسف أيضًا أن تعيش مصر بلا قوانين رادعة، ولا نظم حماية صارمة، ولا قواعد بيانات حاكمة، فيصبح أى شىء متاحًا فى ظل انعدام الرقابة وغياب المرجعية، فنرى عشرات اللوحات المزيفة وعشرات اللوحات المسروقة وعشرات اللوحات المجهولة المصير، فى مقابل عشرات من التصريحات المتضاربة للمسؤولين.
«اليوم السابع» حصلت على مستندات تعرض لقصة اختفاء وتهريب وسرقة لوحتين لمحمود سعيد من متحف الفن الحديث بدار الأوبرا، وأخرى تتعلق بتزوير شهادات توثيق عبدالهادى الجزار، ومن أجل فهم ما تعنيه حقوق الملكية الفكرية للفنان التشكيلى، التقينا ياسر عمر أمين، المحامى فى مجال الملكية الفكرية وقانون سوق الفن، أحد القائمين على إصدار «الكتالوج المسبب» للفنان محمود سعيد.
اختفاء واختلاس وتهريب وتشكيك فى اللوحات الأصلية بمتحف الفن الحديث
كشف ياسر عمر أمين عن العديد من الملابسات الخاصة بحصر وجرد الأعمال الخاصة بالفنان محمود سعيد لإدراجها فى «الكتالوج المسبب»، ومن أشهر هذه الأزمات التى تفجّرت بسبب هذا الكتالوج أزمة لوحة «قبرص بعد العاصفة» التى تعتبر جريمة اختلاس وتهريب متكاملة الأركان.
لوحة «قبرص بعد العاصفة Chypre après l’orage»
قصة تهريب هذه اللوحة تبدأ كالتالى: أعيرت اللوحة لمعرض «مونتفيدو»، بأوروجواى، فى 1960، وكان معها عدد من اللوحات، وقت أن كان مصطفى عبدالرحمن مدير متحف الفن الحديث، ثم انتقلت هذه اللوحة إلى البعثة الدبلوماسية المصرية فى نيويورك، وفى 2013 ظهرت فى القاهرة فى أحد الجاليريهات، وقد استطعنا الحصول على صورة ضوئية تثبت وجودها فى هذا الجاليرى، وللأسف هذه كانت آخر مرة تشاهد هذه اللوحة فى القاهرة، لأنها بعد ذلك سافرت إلى قطر، وبالتحديد فى قاعات المتحف العربى للفن الحديث.
يضيف أمين: بعد اكتشافنا لهذا الأمر خرج البعض يشكك بأن اللوحة ربما تكون قد رسمت مرتين، لكن عن طريق المصادر والوثائق تم التأكد بأن محمود سعيد رسم لوحة واحدة لـ«قبرص بعد العاصفة»، إضافة إلى هذا لدينا ما يثبت أن اللوحة التى دخلت ضمن مقتنيات قطر هى فى الأصل من مقتنيات متحف الفن الحديث المصرى، ولدينا صورة فوتوغرافية التقطت للوحة «قبرص بعد العاصفة» موجودة محل البلاغ، عندما عرضت فى إحدى الندوات فى 2013، ويظهر فيها الدكتور محمد أبوالغار جالسًا بالصدفة بين حضور الندوة ومن خلفه هذه اللوحة، وذلك قبل أن تخرج خفية من مصر، لتصبح ضمن المقتنيات الرسمية لمتحف الفن العربى الحديث بالدوحة فى قطر.
البيانات الرسمية للوحة
اللوحة بالفرنسية Chypre après l’orage، ألوان زيتية، مقاس 73 x 86 سم، أبدعها محمود سعيد فى 1943، كما يذكر جدول إعارات مقتنيات متحف الفن المصرى الحديث الخاص بأعمال الفنان محمود سعيد، مما يثبت أن تلك اللوحة مملوكة للدولة، وتحت الإشراف المباشر والسيطرة الكاملة لقطاع الفنون التشكيلية «الإدارة العامة للمتاحف الفنية»، التابع لوزارة الثقافة، وموثّقة بالسجل تحت رقم 1297، رقم المخزن 2، اسم الفنان: محمود سعيد، خامة العمل: زيت، زمن الاقتناء: 1960، «إعارة خارجية»، جهة الإعارة: معرض «مونتفيدو»، أمريكا الجنوبية، ومنه إلى بعثة مصر بنيويورك، تاريخ 17/6/1960.
ويضيف عمر أمين: بعد التأكد من أن اللوحة وصلت إلى قطر، تواصلت وزارة الخارجية مع مقر البعثة المصرية بنيويورك، وأرسلت خطابًا لقطاع الفنون التشكيلية، موضحة أن مقر البعثة يمتلك 10 لوحات فقط، وهذه اللوحة لم توجد أصلًا فى المقر.
وتابع عمر أمين أنه يمكننا بالطبع استرداد اللوحة من جديد من خلال تفعيل اتفاقية اليونسكو 1970، التى تسعى لاسترداد الأعمال الفنية التى خرجت بطريقة غير مشروعة.
زوبعة أخرى «على الكورنيش»
لوحة «زوبعة على الكورنيش» تمت إعارتها إلى معرض «مونتفيدو»، ثم وصلت إلى البعثة المصرية فى نيويورك، ثم اختفت، وبحسب ما أكده عمر أمين فقد حاول القائمون على إعداد كتالوج محمود سعيد تتبع مصير اللوحة وإلى أين ذهبت، لكنهم لم يتمكنوا من معرفة أى شىء، ولم يتمكنوا من الوصول إليها مع الأسف الشديد، وكل ما تم التوصل إليه هو صورة فوتوغرافية بالأبيض والأسود عرضت فى مجلة فرنسية، وبناء عليها أدرجت اللوحة فى الكتالوج.
وفى مقال للناقد أحمد فؤاد سليم بعنوان «ليست وحدها الراهبة التى ضاعت للرائد أحمد صبرى»، تحدث عن لوحتى محمود سعيد «قبرص بعد العاصفة» و«زوبعة على الكورنيش»، وذلك فى 2006، ضمن كتاب «الفن وأحواله»، قائلًا فيه: «لوحتا قبرص بعد العاصفة، وزوبعة على الكورنيش تمثلان علامات محورية فى حركة الفن المصرى الحديث، ضاع السبيل إليهما منذ أكتوبر سنة 1960 فى مونتفيدو، وظلت المراسلات تلح وتتوسل، بينما أخذت سفارتنا فى مونتفيدو تراوغ وتلاوع لمدة زادت على 12 عامًا كاملة دون جدوى».
لوحة «ذات العيون خضراء La fille aux yeux verts»
أما لوحة «ذات العيون خضراء» للفنان محمود سعيد فقد تسببت فى إحداث أزمة حقيقية بين قطاع الفنون التشكيلية وأحد المزادات العالمية، وبين مالك اللوحة، وبدأت القصة عندما تدخل الفنان الراحل محسن شعلان، رئيس قطاع الفنون التشكيلية الأسبق، ليوقف محاولة بيع هذه اللوحة فى أحد المزادات العالمية عام 2007، زاعمًا أن هذه اللوحة التى تعرض فى المزاد مزيفة، ولا توجد نسخة ثانية أصلية فى العالم، وأن النسخة الأصلية الوحيدة موجودة فى متحف الفن الحديث بدار الأوبرا.
وأكد الناقد الفنى أحمد فؤاد سليم كلام محسن شعلان بأن اللوحة التى كانت معروضة فى المزاد مزيفة، ولا ترتقى للوحة الموجودة بمتحف الفن الحديث، حيث قال فى مقالته «مرة أخرى أين ذهبت حاملة الجرة لمحمود سعيد، هناك ركاكة فى مناطق من شعر الرأس وأساور المعصمين، والساعد الملفوف حول الرأس والأصابع، الأمر الذى لا نراه فى الصورة الأصلية، ولو كانت هذه الصورة نسخة ثانية من الأصلية فإننى لا أتصور أن يقع الفنان الكبير فى هنات غير موجودة بالصورة الأصلية، ومن غير المقبول أن يكتب محمود سعيد على اللوحة المنسوخة عبارة replic».
وبناء على هذه القول سُحبت اللوحة من المزاد، لكن وقت صدور «الكتالوج المسبب» تبين أن الفنان محمود سعيد رسم لوحة «ذات العيون الخضراء» مرتين، وأن النسخة الموجودة بالمزاد أصلية، وتبين أن محمود سعيد أهداها إلى شارل تيراس، مدير متحف الفن الحديث الفرنسى فى الثلاثينيات، كما أن هذه اللوحة موثقة فى مجلة «الأسبوع المصرى» الفرنسية منذ عام 1936، وقد تمكن مالك اللوحة من بيعها فى مزاد «كريستيز» خلال شهر أكتوبر 2017 بمبلغ قيمته 175 ألف جنيه إسترلينى.
لوحة «ذات المنديل الأخضر La fille au mouchoir vert»
مصير لوحة «ذات المنديل الأخضر» كان إلى وقت قريب أشبه بمصير لوحة «زوبعة على الكورنيش»، التى اختف عن العيون، ولم يعلم أحد عنها شيئًا، لكن بسبب صدور «الكتالوج المسبب» حاول القائمون على الكتالوج تتبع لوحة «ذات المنديل الأخضر» بعدما خرجت من متحف الفن الحديث بدار الأوبرا سنة 1947، لتعرض بالسفارة المصرية فى روما، واختفت بعد ذلك حتى عن قطاع الفنون التشكيلية. لكنّ القائمين على الكتالوج المسبب، ومن ضمنهم الدكتور حسام رشوان، وبعلاقته الواسعة بالفن التشكيلى وبالسفارات المصرية، توصلوا إلى أن اللوحة موجودة فى السفارة المصرية بدولة الفاتيكان.
لوحة «السيدة الإسبانية femme espagnole la»
حكاية لوحة «السيدة الإسبانية» مختلفة تمامًا عن اللوحات السابقة، فقصة هذه اللوحة تبدأ بأنها نُسبت زورًا إلى محمود سعيد فترة طويلة، وهى حاليًا موجودة فى متحف محمود سعيد بالإسكندرية، والغريب فى هذا الأمر أن هذه اللوحة تحمل توقيع الفنان «هدجايا»، الذى يظهر بشكل واضح جدًا فى اللوحة. لهذا لا نعلم حتى الآن لماذا تعرض هذه اللوحة ضمن لوحات محمود سعيد، مع العلم أن هذه اللوحة مختلفة كلية عن الأسلوب الفنى لمحمود سعيد.
لوحة «الفتاة ذات الرداء الوردى la fille en rose»
أما قصة لوحة «الفتاة ذات الرداء الوردى» فقد حاول البعض أن يشكك بأنها ليست من لوحات محمود سعيد، خاصة عندما نشرت مجلة الخيال للفنون البصرية منذ فترة، وبالتحديد فى فبراير 2011، أن هذه اللوحة لا تعود إلى محمود سعيد، معتمدة على المقارنة الأسلوبية بين أعمال الفنان كإثبات لعدم صحة اللوحة.
ولهذا تتبع «الكتالوج المسبب» تفاصيل اللوحة، وقام بعمل بحث شامل حول اللوحة، وتأكد أن هذه اللوحة تعود إلى الفنان محمود سعيد، وكان البحث معتمدًا باللغتين العربية والفرنسية.
وبعدما استعرضنا لوحات محمود سعيد التى أثير حولها جدل كبير بعد صدور «الكتالوح المسبب»، حاولنا التواصل مع المسؤولين فى قطاع الفنون التشكيلية، لنتعرف على مصير لوحة «قبرص بعد العاصفة»، ولوحة «زوبعة على الكورنيش»، لكنهم رفضوا التصريح، مؤكدين أن التحقيقات فى هذا الشأن لا تزال مستمرة.
وعلمت «اليوم السابع» من مصادر مطلعة من داخل وزارة الثقافة أن قطاع الفنون التشكيلية ينتظر خطاب إفادة من البعثة المصرية فى نيويورك، يوضح فيه أن لوحة «قبرص بعد العاصفة» لم تكن موجودة فى المقر، وبناء على هذه الإفادة سيتم التحرك بشكل قانونى.
وأوضحت المصادر أن هناك لجنة شُكلت من قطاع الفنون التشكيلية، ومن وزارة الخارجية، تعمل على حصر اللوحات التابعة لقطاع الفنون التشكيلية، والتى خرجت فى جدول الإعارات لتعرض فى 44 مقرًا وبعثة فى الخارج، بداية منذ فترة الأربعينيات، وأشارت المصادر إلى أن هذا الحصر سيمنح القطاع حق تتبع اللوحات، لعدم سرقتها أو تهريبها.