عهد النهضة المصرية
فلا نزاع فى أن مصر كانت فى عهد سعيد باشا الذى خلفه إسماعيل أكثر البلدان الشرقية رخاء، فقد كانت خبت منذ عهد طويل نيران حروب محمد على التى كان يؤخذ لها الفلاحون عنوة من ديارهم، وكانت ضريبة الأراضى خفيفة للغاية لا تكاد تبلغ ثلث الضريبة الحاضرة، وبلغت حاجات المعيشة من الرخص حدا لا يتصوره العقل حتى كانت أجرة العامل العادية اليومية، وهى قرش واحد، تقوم على سعة بحاجة أسرة قروية بأسرها، وكان العمل فى الأشغال العامة الكبرى، السكك الحديدية والقناطر الخيرية الشهيرة التى بدأت فى عهد محمد على وعباس الأول سائرا بهمة عظيمة، فحفرت ترع جديدة، وأدخلت فى مصر لأول مرة الأسلاك البرقية والآلات البخارية الرافعة، ومنح المسيو دى لسبس إجازة إنشاء قناة السويس.
مصر تستفيد من الحرب الأهلية الأمريكية
ولما قامت الحرب الأمريكية اغتنم زراع القطن المصريون هذه الفرصة الثمينة السانحة فضاعفوا صادراته فى سنتين وباعوها بنحو ثىثة أمثال سعرها الأول.
إسماعيل يتولى .. بداية الانهيار
فلما تولى إسماعيل عام 1863 كانت توليته إيذانا بتغيير جديد، ذلك بأن استوائه على أريكة محمد على جاء فى الوقت الذى كانت فيه فرنسا (فرنسة هوسمان وأوفنباخ و"المالية العليا" والفساد والتبذير المتغلغلين فى جميع فروع الإدارة العامة، قد بلغت تحت حكم نابليون الثالث ذروة الخضارة الأوروبية، فصادفت تلك الحال هوى فى نفس إسماعيل الذى كان بطبعه متلافا للمال محبا للظهور، فأراد من أول عهده أن يتخذ له من فرنسا نموذجا يحتذى به على مثاله، وأن يجعل من نفسه نابليونا ثالثا فى الشرق، وشرع لهذا الغرض بحمية وعزيمة ما كان أخلقهما أن توجها إلى خير من هذه الوجوه، وما هى إلا عشية أو ضحاها حتى طبقت الخافقين شهرة بلاطه وقصوره وحفلاته ومحظياته ومطابخه ومخازن ميرته وأعجب الناس جميعا بعبقريته وسخائه.
قناة السويس .. والاستدانة المميتة
ولما احتفل إسماعيل عام 1869 بافتتاح ذلك العمل المجيد وهو قناة السويس، هرع إلى الاحتفال جل ملوك أووربا وفيهم فرنسيس جوزيف ملك هبسبرج الرفيع الشأن، وولى عهد بروسا، والإمبراطورة أوجينى، تصحبهم حاشياتهم وساستهم وعلماؤهم والفنانون من رجالهم.
الدولة العثمانية تصاب بالفزع.. بلا فائدة
وسرعان ما استولى الفزع على الحكومة العثمانية لما عساه أن ينجم عن هذه الديون، فحظرت على إسماعيل أن يعقد أى قرض جديد، ولكن إسماعيل على رغم ذلك فقد عقد عام 1870 قرضا آخر يزيد على 7 ملايين جنيه بضمان الأراضى الأميرية وفائدة (حقيقية) باهظة تزيد عن 13%، هنالك كتب الباب العالى رأسا إلى الحكومة الإنجليزية من حيث هى الدولة الممثلة لمعظم الدائنين "يحتج مقدما على كل اتفاق مالى يمس دخل مصر بالذات أو بالواسطة، ولا يكون قد أقره صاحب الجلالة الشاهانية السلطان" .