ابتدع فنان الكاريكاتير الفلسطينى العبقرى ناجى العلى شخصية «حنظلة» فى رسوماته فتحققت نبوءته: «هذا المخلوق الذى ابتدعته لن ينتهى من بعدى بالتأكيد، وربما لا أبالغ إذا قلت إننى قد أستمر به بعد موتى».
«حنظلة» هو تاريخ الجرح الفلسطينى، هو الشاهد على مأساة فلسطين تحت جحافل الاحتلال الصهيونى، والشاهد على مأساة واقعنا العربى، ولأنه أصبح أيقونة فن الكاريكاتير العربى، يتجدد السؤال: من يكون حنظلة؟ ومتى ابتدعه صاحبه ناجى العلى؟.. يكشف «ناجى» السر، وذلك عبر بيان نشره فى جريدة السياسة الكويتية يوم 13 أغسطس «مثل هذا اليوم 1969»، وكان ينشر فيها رسوماته وقتئذ، ويحمل «البيان» توقيع «حنظلة» بما يعنى أنه يتحدث عن نفسه، كما يحاور ناجى، وبين ضميرى المتكلم والمخاطب وبلهجة فلسطينية تتكشف الأسرار:
«اسمح لى أن أقدم لك نفسى.. أنا أعوذ بالله من كلمة أنا.. اسمى حنظلة.. اسم أبى مش ضرورى.. أمى اسمها نكبة.. وأختى الصغيرة.. نمرة رجلى ما يعرف لأنى دائما حافى.. ولدت فى 5 حزيران «يونيو» 1967.. جنسيتى.. أنا مش فلسطينى، مش أردنى، مش كويتى، مش لبنانى، مش مصرى، مش حدا... إلخ.. باختصار معيش هوية ولا ناوى أتجنس.. محسوبك عربى وبس.. التقيت صدفة بالرسام ناجى.. كاره شغله لأنه مش عارف يرسم، وشرح لى الأسباب.. وكيف كل مارسم عن بلد السفارة بتحتج.. والإرشاد والأنباء بتنذر.. بيرسم عن علتان شرحه.. قللى الناس كلها أودام.. صاروا ملايكة.. والأمور مفيش أحسن هيك.. وبها لحاله عن شو بدى أرسم.. بدى أعيش وناوى بشوف شغلة غير هالشغلة.. قلت له: أنت شخص جبان وبتهرب من المعركة.. وقسيت عليه بالكلام.. وبعد ماطيبت خاطره.. وعرفتو عن نفسى وأنى إنسان عربى واعى.. يعرف كل اللغات ويحكى كل اللهجات.. معاشر كل الناس المليح والعاطل.. والآدمى والأزعر.. وبتاع البتاع.. اللى بيشتغلوا مربوط واللى هيك هيك.. وروحت الأغوار.. وبعرف مين بيقاتل ومين بيطلع بلاغات بس.. وقلت إنى مستعد أرسم عنه الكاريكاتير كل يوم وفهمته أنى ما بخاف من حدا غير من الله.. واللى بدو يزعل يروح يبلط البحر.. وقلت له عن اللى بيفكروا بالكنديشن والسيارات.. وشو بيطبخوا أكثر مما يفكروا بفلسطين.. وياعزيز القارئ: أنا آسف لأنى طولت عليك.. وماتظن أنى تعمدت هالشىء عشان أعبى هالمساحة.. وأنى بالأصالة عن نفسى وبالنيابة عن صديقى الرسام أشكرك على طول.. وبس.. وإلى اللقاء غدا».
هكذا أعلن «حنظلة» عن نفسه حسب صيغة البيان، لكن ناجى يذكر أسباب ابتكاره هذه الشخصية، حسبما يذكر «شاكر النابلسى» فى كتابه «أكلة الذئب- السيرة الفنية للرسام ناجى العلى»: «سأله حسين منصور المراسل الصحفى المصرى لمجلة «الكفاح العربى» فى الكويت: إيه اللى خلاك يا ناجى تبتكر الشخصية العجيبة دى؟ فرد: فى الكويت وفى الخليج كله، بدأت ظاهرة توفر كل إشى فى السوق وهجمت الناس زى المفاجيع.. والاستهلاك الفظيع وصل قمته بعد 1975، وانجرفت ناس كتيرة، وانفتحت دكاكين لا أول لها ولا آخر.. وبصراحة ياحسين أنا خفت على نفسى من هالموجة أو من هالهوجة مثل ما بتحكوا بمصر.. وهالاغراءات الفظيعة.. إيش ثلاجات.. وإيش سيارات.. وإيش مكيفات.. وإيش عفش وأثاث وملابس.. وإيش أكل.. لحوم وأسماك.. إشى عمرنا يازلمة ما شفناه ولابالمنام.. وخفت على حالى بينى وبينك وخاصة أنى تزوجت وأجانا ولد.. وبدأ البيت يأخذ حجم العائلة، فقلت أحسن إشى ياولد ياناجى تعملك أشى يذكرك دائما بأصلك وفصلك وعشيرتك وبلدك.. بفلسطين وقرية «الشجرة» ومخيم «عين الحلوة» فرحت ابتكرت هالشخصية الحرس».
يسأله «منصور» مستفسرا متعجبا: «يعنى الواد ده الحرس اللى حايحشوك عن ده كله؟.. فيجيب: «هذا هو الضمير اللى يلسعنى لوشردت.. وهذا هو اللى حيحاسبنى آخر الليل لو قبضت.. وهذا هو المر اللى راح أشربه كل يوم الصبح لو أخلفت.. وهذه هى الأصابع اللى حاتشد أذنى لو تنازلت».. ويسأله عن سبب اختياره اسم «حنظلة»، فيجيب: «عشان يكون رمز المقاومة المرة والمعارضة الصابرة اللى ما بتهادن».. ثم يسأله: «اشمعنى عيل بالهيئة دى يعنى؟ يجيب: «هذا أنا وأنا صغير.. طول نهارى كنت حافى وشورتى مرقع وقميصى مبقع.. وشعرى منكوش زى القنفد.. اللى كل مايحصروه يلاقى له منفذ.. والذبان معشش بعيونى.. وحالى حالة».. يسأله منصور: «حايكبر بكره ولاهيفضل صغير كده؟.. يجيب: «أبوالحناظل ولد عمره عشر سنين.. أسطورة ومش راح يكبر إلا بعد ماتعود البلاد لأهلها.. لأنه واقف بيناضل ضد نواميس الطبيعة العربية والغربية وقوانينها».
يسأله منصور عن سبب أنه يقف وظهره للقارئ.. فجيب ناجى: «هوه مش داير ظهره للقارئ.. هوه إجه ووقف.. ووجهه لفلسطين قدامه.. مش إلنا.. القارئ هو اللى إجه ووقف وراه مش قدامه.. والقارئ وقف وراه لأنه متخلف.. متخلف فى كل إشى.. عن التعليم وعن العلم وعن الفهم وعن الوعى وعن التاريخ وعن التصميم وعن الثأر وعن المواجهة وعن التضحية وعن كل إشى.. ويوم القارئ ما يكمل هذا كله حايجى ويقف قدام حنظلة ويشوف وجهه».