فى عام 2002 بينما كانت تعانى تركيا من اضطراب سياسى على واقع حدوث 4 انقلابات سياسية على مدى خمسة عقود منذ عام 1960 وحتى 1997م، رافق ذلك أزمة اقتصادية خطيرة وتضخم وفقر وبطالة وهروب لرؤوس الأموال، ليصل حزب العدالة والتنمية إلى الحياة السياسية فى العام نفسه، ويقوده رجب طيب أردوغان، الذى تلقى دراسة بكلية علوم الاقتصاد والتجارة فى جامعة مرمرة عام 1977، وعبر استغلاله للخطاب الدينى انتخب بعد عام أى فى 2003 رئيسا لوزراء تركيا، ونتيجة للهدوء السياسى النسبى آنذاك، سجل الاقتصاد التركى فقاعة كبرى، ركب أردوغان موجتها من خلال إصلاحات اقتصادية وانفتاح على الأسواق الروسية وبلدان الجوار التركى، وعمل على جذب استثمارات ضخمة وحقق الاقتصاد معدل نمو سنوى 7% .
وخلال السنوات بين 2002 وحتى 2014 أى حتى فوز أردوغان رئيسا جمهوريا للبلاد فى أول انتخابات رئاسية تجرى بالاقتراع المباشر صعد نجمه، على حساب الفقاعة الاقتصادية التى حدثت بالبلاد، فقد تضاعف الاقتصاد التركى 4 مرات تقريباً، مستنداً فى ذلك لقفزة اقتصادية كبيرة بحسب تقارير للبنك الدولى وبدأت ترتسم ملامح الديكتاتور الذى يرغب فى الاستحواذ على دفة الحكم والانفراد بالسلطة.
ويبقى السؤال هو: كيف حول "أردوغان" الاقتصاد التركى من اقتصاد ينافس الاقتصاد العالمية إلى اقتصاد هش مأزوم وليرة فقدت خمس قيمتها تنتظر الأسوأ؟ وللإجابة عن هذا التساؤل يجب الإشارة إلى أن الاقتصاد التركى اليوم دخل نفق مظلم، فقد فقدت الليرة نحو 22% من قيمتها مقابل الدولار منذ بداية العام الحالى، حيث يخشى المستثمرون من تأثير الرئيس التركى رجب طيب إردوغان على السياسة النقدية ودعواته المتكررة لخفض أسعار الفائدة، كما سجل التضخم أعلى مستوياته فى أكثر من 14 عاما، ليلامس نحو 16% على أساس سنوى، مع ارتفاع أسعار الغذاء، وهو ما يُظهر إثر انخفاض العملة التى لم يتمكن البنك المركزى من دعمها، ولامس الدولار الواحد 6 ليرات، إذ بلغ 5.17 ليرات لأول مرة فى تاريخها، كما وبلغ سعر صرف الليرة 5.97 مقابل اليورو، ليس هذا فحسب بل حذرت وكالة التصنيف الائتمانى الدولية "فيتش" فى تقرير لها صدر مؤخرا، أن البنوك فى تركيا من المخاطر المتعددة الناجمة عن خفض تصنيفها الائتمانى، مشيرة إلى أنه فى شهر يوليو الماضى، خفضت الوكالة تصنيف 24 بنكا تركيا وأخراجها من التصنيف السلبى إلى الراكد.
وأشارت تقارير لمنظمة الأمن والتعاون فى أوروبا OECD إلى أن ديون الشركات التركية وصلت إلى 500 مليار دولار، أى إلى نحو 55% من الناتج المحلى الإجمالى. وتجاوزت مجمل الديون 600 مليار دولار بينما قدرت الاحتياطات التركية بأقل من 100 مليار دولار، وحذر صندوق النقد الدولى من خطورة ذلك، فى ظل العزوف عن شراء السندات الحكومية بسبب عدم استقرار الليرة وهروب رؤوس الأموال الأجنبية والتركية من هذا البلد.
ولعل أحد أهم الأسباب التى أدت إلى هذا التدهور التاريخى والتدريجى للاقتصاد التركى وهبوط العملة، هى الاضطرابات السياسية التى شهدتها السنوات الأخيرة، فقد تفاقمت مشاكل تركيا بسبب السياسات التي انتهجها أردوغان فى إدارة البلاد، وفى مقدمتها استنزاف الدولة التركية أموالها فى دعم الجماعات الإرهابية واحتضان التنظيمات الدولية التى تصنف بالارهابية، ومنحها الملاذ الآمن والإنفاق على أبواقها الإعلامية الناطقة بسياسات النظام، فضلا عن سياسات النظام الإقليمية فى دعم التطرف فى كلا من سوريا والعراق ودول أخرى.
الاضطرابات السياسية فى عهد أردوغان تعمقت على واقع الأزمة السياسية والاستقطاب الحاد فى الداخل، بين المعارضة والنظام، والتضييق على الحريات وتكميم الأفواه والقمع، عقب انتزع أردوغان الحكم وانفراده بالسلطة بعد إجراء انتخابات رئاسية فى 24 من يونيو الماضى أثيرت حولها نزاهتها الكثير من الشكوك، ورغم تحذيرات الخبراء من اقدام النظام على خطوة الانتقال إلى نظام رئاسى يمتلك فيه الرئيس كافة الصلاحيات أصبحت العملة والاقتصاد كبش فداء، وقاد أردوغان البلاد نحو الهاوية، بعد الإعلان الرسمى عن الانتقال إلى نظام جديد، ولاسيما عقب تعيينه صهره بيبرات البيرق وزيرا للمالية.
وبنظرة تشاؤمية استقبل الاقتصاد التركى هذا الرجل الذى ينظر إليه على أنه خليفة أردوغان، حيث خسرت الليرة التركية فى يوليو الماضى أكثر من 2% من قيمتها أمام الدولار كرد فعل مباشر، وأدى التدهور الحاد الذى تشهده العملة إلى ارتفاع الاستياء بين المواطنين الأتراك، وهو ما عبر عنه النشطاء الذين سخروا من "استقرار أردوغان" الذى لطالما وعد به مواطنيه من أجل انتخابه.
ليس هذا فحسب، بل احتلت العقوبات الأمريكية على النظام التركى المرتبة الثانية من جملة أسباب الانهيار الاقتصادى الذى تعيشه أنقرة، بسبب تعنت أردوغان فى تسليم القس الأمريكى آندرو برانسون الموضوع تحت الإقامة الجبرية بعد سجنه لمدة 21 شهرا بتهمة دعم جماعة فتح الله جولن، التى تتهمها أنقرة بالوقوف وراء محاولة الإطاحة بأردوغان فى 15 يوليو عام 2016.
وبدلا من أن يعترف أردوغان بأن سياساته فى دعم الإرهاب واحتضان الجماعات المسلحة فى أنقرة هى التى أدت إلى هذا التدهور، فقد اعتبر فى أغسطس الجارى الأمر مؤامرة تحاك ضد بلاده، قائلا: "أرى أن هناك من يحاولون إركاع بلدنا، لوبى الفائدة يستهدف بلدنا"، قائلا: "أنا أوجه كلامى لمن يمتلكون الدولار أو اليورو تحت الوسائد، اذهبوا وحوّلوا أموالكم إلى الليرة التركية حتى نبطل هذه المؤامرة معًا".
ومن هنا يمكن التأكيد على أن رجب طيب أردوغان مثلما حقق طفرة اقتصادية هائلة منذ سنوات حكمه الأولى، أخذت هذه الطفرة سلم الهبوط منذ منتصف العام 2013، للأسباب سالفة الذكر وهوت ببلاده إلى اقتصاد كارثى فى عام 2018، قد تنذر بسقوط وشيك له جراء الاستياء الشعبى والغليان فى صفوف المعارضة، ويمكن الإشارة إلى الهبوط التدريجى للعملة التركية ففى 2015 خسرت الليرة التركية 20% مقابل العملتين الأوروبية والأمريكية، وبلغت 2,446 للدولار واليورو 2,76 ليرات، وفى خلال محاولة الاطاحة بأردوغان فى يوليو 2016 سجلت تراجعا جديدا بنسبة 5% مقابل الدولار وصل سعر الدولار 3.0157 واليورو 2.07، - وفى نوفمبر 2017 واصلت الهبوط وبلغت 3.8950 ليرة للدولار الواحد و4.1089 لليورو، وفى مطلع 2018 تراجعت قيمة الليرة أمام الدولار بنسبة 25%، وخلال العام نفسه سجلت هبوطا تاريخيا وفقدت العملة خمس قيمتها، ولامست الـ 6 ليرات وصل سعر الدولار 5,17 ليرات واليورو 5,97 ليرات، وارتفع التضخم بنسبة 16%.