يبدو أن سلسلة العقوبات الأمريكية الأخيرة، والتى طالت تركيا وإيران، على خلفية الخلافات بينهما وبين إدارة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، ستساهم بصورة كبيرة فى تغيير خريطة النفوذ فى منطقة الشرق الأوسط، سواء على مستوى القوى الإقليمية الفاعلة داخل المنطقة، أو حتى القوى الدولية الكبرى التى تلعب الدور الرئيسى فى رسم سياسات المنطقة، وعلى رأسها الولايات المتحدة، والتى طالما استخدمت ذراعها التركى واستفادت من السياسات الإيرانية ، لتحقيق طموحاتها فى المنطقة وتقرير مستقبلها.
ففى الوقت الذى لعبت فيه أنقرة الدور الرئيسى فى تحقيق رؤية الرئيس الأمريكى السابق باراك أوباما بالمنطقة، من خلال تنفيذ ما يسمى بـ"الفوضى الخلاقة"، والتى قامت على زعزعة استقرار دول الشرق الأوسط، عبر تمكين الأذرع الموالية لأنقرة، لاقت طهران دعما غير مباشر من واشنطن، من خلال الصفقة النووية التى راعاها الرئيس الأمريكى السابق، وكان من شأنها رفع العقوبات على طهران لتنمية أوضاعها الاقتصادية، وهو ما ساهم فى تنشيط الدعم الإيرانى للميليشيات المسلحة فى دول المنطقة، لإثارة الفوضى ويستخدمها نظام "الملالى" لتوسيع نفوذه بالمنطقة.
العقوبات الأمريكية.. نهاية أذرع أوباما فى الشرق الأوسط
إلا أن السياسات الأمريكية العدائية تجاه القوتين الطامحتين نحو النفوذ، ربما شهدت تغييرا عميقا خلال حقبة ترامب، وهو الأمر الذى بدا واضحا منذ دخوله البيت الأبيض، تارة عبر التصريحات، وتارة أخرى عبر التعيينات التى شهدتها الإدارة الأمريكية، والتى صارت مدججة بالصقور الجمهوريين، والمعروفين بمواقفهم المناوئة للدور الذى تلعبه كلا من أنقرة وطهران عبر دعم جماعات راديكالية متشددة معروفة بعدائها التاريخى للولايات المتحدة.
أوباما وأردوغان
وفى النهاية جاءت العقوبات الأمريكية على كلا الدولتين، لتكون بمثابة كلمة النهاية للتحالفات القائمة فى المنطقة، وربما لتدشن تحالفات جديدة تساهم فى تقويض نفوذ القوى الإقليمية التى بزغ نجمها خلال سنوات أوباما، وربما تفتح الباب أمام قوى دولية أخرى، وعلى رأسها روسيا، لتثبيت أقدامها فى المنطقة، بعد سنوات قامت فيها موسكو بأداء دور فعال فى الحرب على الإرهاب، عبر البوابة السورية، حيث أصبحت روسيا صاحبة الكلمة العليا فى الأزمة السورية، لتتحدى الهيمنة الأمريكية على مقدرات الشرق الأوسط بشكل مطلق، فى إطار حرب النفوذ بين روسيا والولايات المتحدة.
البديل الروسى.. قواسم مشتركة تدشن تحالف جديد
العقوبات الأمريكية الأخيرة ربما تفتح الباب أمام أنقرة للبحث عن بديل للحليف الأمريكى، بينما ستقوض الثقة بين طهران وواشنطن، وهو ما يطرح تساؤلات حول التحركات التى قد تنتهجها الدولتان فى المرحلة المقبلة لتعويض خسارتهما سواء بانهيار التحالف مع أمريكا، كما هو الحال بالنسبة لتركيا، أو بانتهاء مرحلة الصمت الأمريكى تجاه السياسات المزعزعة للاستقرار التى تتبناها إيران، فى ضوء معطيات دولية أهمها أن كلا الدولتان ربما لا يمكنهما اللجوء إلى الاتحاد الأوروبى فى المرحلة الراهنة، سواء بسبب توتر العلاقة بين أردوغان والدول الرئيسية فى أوروبا وعلى رأسها ألمانيا، أو لفشل القارة العجوز فى إنقاذ الاتفاق النووى الإيرانى.
بوتين وأردوغان وروحانى
وهنا تصبح روسيا بمثابة الملجأ الوحيد أمام كلا الدولتين، خاصة وأن الدول الثلاثة سبق لهم التنسيق فيما يتعلق بالشأن السورى من خلال مباحثات "أستانة"، كما أن موسكو لم تكن بعيدة عن سيف العقوبات الأمريكية، على خلفية الاتهامات التى تلاحقها حول التورط فى تسميم العميل الروسى سيرجى سكريبال الذى يعيش فى بريطانيا، وبالتالى فهناك قواسم مشتركة تبدو واضحة تجمع الدول الثلاثة ربما تساهم فى خلق التحالف الجديد.
من أمريكا إلى روسيا.. اللعب وفق قواعد الكريملن
ولكن يبقى التساؤل حول المواقف المتعارضة للدول الثلاثة تجاه مختلف قضايا المنطقة، وفى القلب منها الأزمة السورية، خاصة فيما يتعلق بالخلاف حول وجود التنظيمات الإرهابية الموالية لأنقرة فى إدلب، والتى يسعى نظام أردوغان لاستخدامها لتحقيق مصالحه ولدحض الميليشيات الكردية، والتى لعبت دورا رئيسيا فى الحرب على تنظيم داعش الإرهابى، كما أن هناك خلافات كبيرة بين روسيا وإيران حول بقاء القوات الإيرانية فى الداخل السورى، وبالتالى فربما تكون العقوبات الأمريكية الأخيرة على كلا من طهران وأنقرة هي بمثابة فرصة للجانب الروسى لفرض كلمته عليهما.
الوضع الاقتصادى الصعب الذى تعيشه كلا من تركيا وإيران، يفرض عليهما التقارب مع موسكو، ولكن وفق قواعد الكريملن، بحيث يتحول دورهما من خدمة الأهداف الأمريكية إلى تحقيق الغايات الروسية، خاصة وأن الأمر لا يتعلق فقط بمسألة النفوذ السياسى، وإنما يمتد لحاجتهما إلى إيجاد بديل تجارى، يمكنه مساعدة وضعهما الاقتصادى المنهار فى ظل تشابه الظروف الاقتصادية، وانهيار العملة فى كلا منهما جراء العقوبات الأمريكية.