فى الوقت الذى تتعنت فيه أنقرة فى الإفراج عن القس الأمريكى المحتجز لديها أندرو روبنسون، على خلفية مزاعم بتورطه فى محاولة التحرك العسكرى للإطاحة بأردوغان، نجد تغييرا جذريا فى المواقف التركية حيال دول الاتحاد الأوروبى، فى المرحلة الراهنة، وهو ما بدا واضحا فى قرار الحكومة التركية بالإفراج عن جنديين يونانيين تم احتجازهما بتهمة التجسس إثر عبورهما الحدود التركية، بينما سعت أنقرة بالتزامن مع ذلك لاسترضاء ألمانيا بإلغاء حظر السفر المفروض على صحفية ألمانية تدعى ميشالى تولو والتى تتهمها تركيا بالانتماء لمنظمة إرهابية.
القرارات التركية تعكس ازدواجية نظام أردوغان فى التعامل مع قضية السجناء الأجانب، خاصة مع تشابه الاتهامات التى يواجهونها أمام القضاء التركى، والتى تتراوح بين الإرهاب وتهديد الأمن التركى بالإضافة إلى التهمة التى طالما ما استخدمتها الحكومة التركية للإطاحة بخصومها فى الداخل والخارج، وهى التورط فى محاولة "الانقلاب" الفاشلة، حيث أصبحت بمثابة ورقة دبلوماسية يحاول بها استفزاز خصومه تارة ومغازلتهم بها تارة أخرى، وهو ما يطرح تساؤلات حول أهداف السياسة المزدوجة التى يتبعها أردوغان فى المرحلة الراهنة تجاه شركائه فى حلف الناتو، فيما يتعلق بسجنائهم القابعين خلف القضبان فى أنقرة.
سجناء أوروبا.. ورقة أردوغان لحشد تحالف ضد واشنطن
قرارات الإفراج الأخيرة التى اتخذها أردوغان تجاه السجناء من مواطنى خصومه فى أوروبا، ربما تحمل فى طياتها محاولة صريحة لمغازلتهم، بعد شهور وربما سنوات من التوتر، خاصة وأن أنقرة لا تحتمل المزيد من العزلة فى المرحلة الراهنة، مع تواتر العقوبات الأمريكية، التى تتزامن مع حالة الانهيار الذى تشهده الليرة التركية، وتدهور الأوضاع الاقتصادية.
الصحفية الألمانية التى أفرج عنها أردوغان
إلا أن هذه القرارات تحمل فى الوقت نفسه دعوة تركية إلى أوروبا للتحالف مع أنقرة ضد الولايات المتحدة، خاصة وأن التوتر التركى الأمريكى يتزامن مع توتر بين إدارة ترامب ومعظم حلفاءه فى أوروبا، بسبب التعريفات الجمركية التى فرضتها واشنطن عليهم من جانب، بالإضافة إلى الخلاف حول كيفية التعامل مع بعض القضايا الدولية، وفى القلب منها الانسحاب الأمريكى من الاتفاق النووى الإيرانى، وهى القضايا التى تلقى امتعاضا سواء من قبل أوروبا أو تركيا على حد سواء.
من هنا يمكننا القول بإن القرارات التركية تجاه سجناء أوروبا هى بمثابة مهادنة تهدف إلى توسيع نقاط التلاقى بين أنقرة والقارة العجوز، بحيث يمكنها وضع الولايات المتحدة فى خانة العزلة الدولية، وهو ما بدا واضحا فى تصريحات لأردوغان، ردا على العقوبات الأمريكية الأخيرة، حيث أكد خلالها على أن حكومته سوف ترد على من يشن حربا تجارية ضد العالم كله وجر بلاده فيها، فى إشارة للتوتر الحالى بين واشنطن وحلفائها فى أوروبا.
القس الأمريكى.. ورقة أنقرة لمحاربة ترامب انتخابيا
ولعل اقتصار النهج المرن الذى تتبناه أنقرة فى التعامل مع السجناء الأجانب، على مواطنى أوروبا دون الولايات المتحدة، يمثل انعكاسا لعمق الخلافات الأمريكية التركية، لتصبح قضية القس السجين مجرد غطاء لخلافات تبدو أكثر عمقا وأهمية، لعل أهمها الدور التركى المشبوه فى دول الشرق الأوسط، خاصة فى ظل حربها ضد الأكراد الذين لعبوا الدور الرئيسى فى الحرب على تنظيم داعش الإرهابى، وكانوا بمثابة ذراعا أمريكية للتحالف الدولى فى سوريا والعراق، بالإضافة إلى دعم أنقرة للجماعات المتطرفة فى المنطقة، وهو ما يساهم بصورة كبيرة فى زعزعة استقرار المنطقة وتهديد المصالح الأمريكية وحلفائها.
القس الأمريكى المحتجز لدى أنقرة
إلا أن طغيان قضية القس الأمريكى على الخلافات التركية الأمريكية يمثل الأهمية التى يحظى بها ملف السجناء لدى السلطات التركية والأمريكية فى آن واحد، ففى الوقت الذى يسعى فيه ترامب نحو الضغط على النظام التركى للإفراج عن السجين الأمريكى للترويج له باعتباره انتصارا دبلوماسيا يمكنه استخدامه قبل انتخابات التجديد النصفى، يتعنت أردوغان لدحض خطة ترامب الانتخابية من جانب، وكذلك لرفع الشعارات الرنانة حول شموخ النظام ورفضه الرضوخ أمام هيمنة القوى الدولية فى الداخل التركى من جانب آخر.
المعضلة التركية الإيرانية.. الرهان على أوروبا لا يجدى
يبدو أن الرئيس التركى يحاول انتهاج نفس السياسة التى سبقته إيران فى استخدامها، فى أعقاب الانسحاب الأمريكى من الاتفاق النووى فى مايو الماضى، حيث سعت طهران إلى إثارة الوقيعة بين أوروبا والولايات المتحدة، بينما أدلى مسئوليها بتصريحات تغازل أوروبا متعهدين بالحفاظ على الاتفاق النووى طالما أبقت أوروبا على دعمها له، وقدمت الدعم الاقتصادى لطهران من أجل الحفاظ على التوازن الاقتصادى فى الدولة الفارسية.
أردوغان وروحانى يواجهان نفس المعضلة
ولكن تبقى المعضلة الإيرانية التركية واحدة، حيث أن قيادات البلدين ربما لم يدركا أن منظور الغرب الأوروبى لدورهما هو نفسه المنظور الأمريكى، ففى الوقت الذى ترفض فيه أوروبا الكيفية التى يتعامل بها ترامب مع الدور المشبوه الذى تلعبه كلا من تركيا وإيران، فإنها تدرك خطورة هذا الدور، وهو الأمر الذى يبدو واضحا فى تصريحات كافة المسئولين الأوروبيين، وكذلك الإجراءات الخجولة التى اتخذتها للتخفيف من تداعيات القرارات الأمريكية
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة