كانت الساعة تشير إلى الثامنة صباحا من يوم 11 سبتمبر 2001، عندما دلف المهندس المصرى الأصل مكرم عبد السيد حنا "الأب مارك حنا حاليا" إلى مكتبه فى الطابق الثامن والثمانين بالمبنى الشمالى لبرج التجارة العالمى حيث يعمل بقسم البناء.. الأجواء كانت مشرقة ذلك اليوم غير أن هذه الأجواء بعد 46 دقيقة فقط ستتحول إلى كتل من اللهب والجحيم والموت والدم تسبب فيها مصرى آخر يقود طائرة مختطفة اسمه محمد عطا تنفجر بالمبنى.
ويصطحبكم "اليوم السابع" إلى تفاصيل رحلة نجاة مكرم أو ماك "اسمه المختصر"، أو الأب مارك حاليا"، حيث أجرينا من واشنطن دى سى العاصمة، اتصالا هاتفيا به حيث يقيم فى نيوجيرسى، كشف لنا فيه تفاصيل رحلة النجاة من الموت.. الرحلة من الجحيم إلى الحياة.. لكن المثير والمدهش ليس فقط رحلة نجاة "مكرم"، وإنما كيف لرجل وهو على بعد خطوات من الموت أن يهتم بإنقاذ حيوات الآخرين.. وكيف لرجل فى خضم هذه الأحداث أن يحمل رجلا آخر على عنقه هابطا به على السلالم 84 طابقا.
فى الطابق 88 يعمل مارك، وبالتحديد فى الجزء الشرقى من البرج الشمالى.. فى حدود الساعة الثامنة و46 دقيقة شعر أن المبنى يهتز يمينا ويسارا كأنه شجرة، إذ أنه مصمم على أن يهتز فى حالة الزلازل، لكن درجة الاهتزاز كانت غير عادية.. وبعض الفواصل بدأت تتساقط داخل الطابق.
لكن الذى لم يدركه مارك آنذاك، أن مصريا آخر يقود طائرة مخطوفة اصطدم بها بالبرج الشمالى من مركز التجارة العالمى، اصدم بها بين الطابقين 92 و93، أى فوقه بـ5 طوابق فقط، وبالتحديد فى الجزء الشرقى الجنوبى.
انقطعت التيار الكهربائى، والمصاعد لا تعمل، وصار على كل فرد أن يعتمد على نفسه للنجاة، مساحة كل طابق نحو "فدان" كما يقول مارك.. الآلاف يعملون فى المكان، الزحام كأنه الحشر، كل فى طريقه إلى الخارج
اتجه مارك وصديقاه رفيقا الرحلة فرانك دى مارتينى وبول أورتيز إلى الجانب الغربى من المبنى، وبالتحديد إلى منفذ الخروج "سى"، وبينما هم على وشك الهبوط على السلالم للنجاة بحياتهم، سمع مارك وصديقاه صوت استغاثة وطرق على أبواب "الدور 89" والنار تقترب من الطابق.. أصر فرانك دى مارتينى -كما يحكى مارك- على ضرورة مساعدة الآخرين، فهرعوا ثلاثتهم لإنقاذهم وفتحوا باب المخرج وأخرجوا من وجدوه داخل هذا الدور، وواصل الجميع رحلتهم للنجاة على السلالم.
وبينما كانت النيران تلتهم الأخضر واليابس والدخان يملأ المكان.. ساعد مارك وفرانك وبول كل من وجدوه، ثم هبطوا على السلالم إلى الدور 88، بحثا عن آخرين لمساعدتهم.. وجدوا أحد مصممى برجا مبنى التجارة العالمى فى ذلك الطابق، ساقه حظه العاثر لزيارة المبنى فى ذلك اليوم.. اسمه مو ليبسون.. رجل يبلغ من العمر 89 عاما، نحيف وضعيف البنية ووزنه نحو 60 كيلو جراما.. لم يستطع الرجل أن يهبط على السلاسم، فقرر مارك أن يحمله على كتفه بينما تتدلى قدما الرجل على صدره، وطلب منه صديقاه فى الطابق 87 أن يهبط بالرجل المسن بينما سيتفرغان هما لمساعدة آخرين.
ويروى مارك: "واصلت الهبوط وأنا أحمل مو ليبسون على عنقى، وعندما وصلنا الدور 67 سمعت ضربة قوية كأنها قنبلة، عرفت فيما بعدها مبنى البرج العالمى الجنوبى اصطدمت به طائرة".. واصل مارك طريقه إلى أسفل على السلاسم لم يثنه الحمل الثقيل على كتفيه.. لم يفقد الأمل وهو ورفيقه فى الخروج إلى النجاة.
أخيرا وبعد نحو 47 دقيقة، وصل مارك إلى الدور الـ21.. وهناك التقى رجال الإطفال الذين كانوا يتخذون من الدور 21 قاعدة لعلاج ومساعدة من يحتاجون إلى المساعدة.. لمدة نصف ساعة استمر مارك فى مساعدة رجال الإطفاء لمساعدة الآخرين، وأعطى لهم التفاصيل التى طلبوها منه عن تصميم المبنى، ثم أبلغوه بعد ذلك أنه يجب عليه المغادرة لأنهم تلقوا تعليمات بضرورة مغادرة المدنيين.
لم يكن أحد تحتى هذه اللحظة يعلم أن المبنى سينهار بعد قليل.. بدأ مارك المغادرة حاملا "مو" مرة أخرى الذى أصر على المغادرة معه.. يحكى مارك عن لحظات من الرعب والقلق بعدما عرف بانهيار المبنى الثانى تماما: لما وصلت بين الطابقين 18 و20 شعرت بضربة قوية وعرفت أن مبنى2 انهار تماما، شعرت بالخوف فحملت "مو" ووصلت للوبى واخترت إنى أطلع من شارع "شارع الغرب".
كانت الأجساد تتطاير من الهواء.. ضحايا يقفزون من الطوابق العليا التسعين، والمائه وغيرها هربا من النار.. اتصل مارك بالشرطة التى يراها على مسافة قريبة منه طلبا للمساعدة.. قالوا له: لازم انت توصل لينا.. وحذروه: "خد بالك من الأجساد التى تتطاير لو سقط أحدها عليك سيقتلك.. بعدما وصل مارك ورفيقه "مو" إلى مكان الشرطة بثوان معدودة.. انهار المبنى تماما، ومع انهياره مات كل من فى المبنى".
جرى مارك بكل قوته، على غير هدى حتى وصل إلى النهر.. غسلت إحدى السيدات وجهه.. وقف فى طابور بضع ساعات حتى اتصل بزوجته ليطمئنها.. ثم استقل مركبا فى النهر حتى وصل لجيرسى سيتى.
وقال مارك: أنا داخل المبنى كنت بدخل انا واصدقائى نتأكد مفيش حد موجود فى الادوار وكان فيه ناس.. فى البداية قلت أنا وأصدقائى غالبا موتور انفجر محدش كان عارف أن المبنى هيقع، وشفنا كمية دخانة كبيرة جديدة.. كنا كل واحد يصلى لإلهه مسلم أو مسيحى أو يهودى".
وعن أكثر من أثر عليه قال مارك: "أكتر حاجة أثرت فيه لما ناس كانت محجوزة من الاسانسير ومش عارفين نخرجهم، ولما عرفت أن المبنى التانى اتضرب كانت أحاسيس الخوف شديدة، وأول ما فكرت فيه أسرتى وأولادى ولما نزلت الدور الارضى المياه كانت فى منتصف أجسادنا وشعرت أن المكان ساحة حرب".
حضر مارك 44 جنازة لأصدقاء كان يعرفهم توفوا فى هذا الحادث، لكن أكثر جنازتين أثرتا فيه هما جنازة صديقاه ورفيقاه فرانك دى مارتينى وبول أورتيز، اللذين استمرا فى مساعدة الآخرين ولقيا حتفهما داخل المبنى.
لم يستطع مارك أن يحرك قدمه لمدة أسبوعين بسبب المعاناة.. نزوله على السلالم 89 طابقا، بل ويحمل جسد إنسان آخر على كتفيه.. المياه التى كانت تغرق المكان وهو يحمل رفيق النجاه.. المشاهد التى رآها.. الأجساد التى تتطاير.. الدماء.. النار واللهيب والموت الذى كان يأكل الأجساد بلا رحمة".
مشاهد ذلك اليوم العصيب لا تزال محفورة فى ذهن "مكرم حنا" الذى غير اسمه إلى مارك حنا عندما أصبح كاهنا فى عام 2005..ويعمل الآن فى كنيسة القديسة مريم القبطية الارثوذكسية فى نيوجيرسى.. دائما وأبدا يريد مارك مساعدة الآخرين.. هذا ما يحاول أن يبثه دائما فى الشباب الذين يلتقيهم دائما.. يعلمهم التسامح والعطاء.
وعن استقبال الناس له.. استطرد مارك: "كان فيه فوبيا فى البداية من العرب وخاصة المصريين تحديدا بسبب محمد عطا، بعد أسبوعين وأثناء مشاركتى فى عملية تنظيف المكان كانوا مهتمين بى وفرحانين إنى ساعدت الناس وأخذونى كواحد مصرى نموذج، وتغيرت وجهة نظر بعضهم كثيرا،
كرمت الولايات المتحدة الأمريكية مارك، وأعطته جائزة الأبطال المدنيين فى 9\11 بسبب بطولته ومساعدته الآخرين.. يحكى مارك المفعم بالأمل والمحبة تفاصيل ما حدث فى اللقاءات والندوات التى يدعى لها.. يدعو الجميع إلى المحبة والسلام".
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة