على غرار الأفلام البوليسية، تسقط الطائرة الروسية على الأراضى السورية، بينما يفشل الفاعل فى التبرؤ من جريمته رغم محاولاته فى إلصاق جريمته بأخر.. هكذا كان المشهد فى سوريا أمس، بعد أن أعلنت وزارة الدفاع الروسية مسئولية إسرائيل عن الحادث، بينما باءت محاولات الدولة العبرية لإلصاق التهمة بالجيش السورى بالفشل، ربما لتضع الحكومة الإسرائيلية أمام نيران الإدانة الروسية، لتصبح العلاقات بين موسكو وتل أبيب فى مأزق حرج، ربما بعدما شهدت تطورا كبيرا على خلفية التنسيق بين الجانبين حول الوضع فى منطقة الجولان وتأمين الحدود الإسرائيلية السورية فى الأشهر الماضية.
ولعل المفارقة المثيرة للانتباه فى المشهد الروسى الإسرائيلى، أنه يأتى تكرارا لمشهد آخر على نفس المسرح السورى، بينما كان البطل الشرير فى الواقعة الأولى هو الرئيس التركى رجب طيب أردوغان، عندما أسقطت القوات التركية طائرة روسية فى نوفمبر 2015، لتفتح الباب أمام حقبة من التوتر الدبلوماسى تلاها اعتذار تركى بعد أن نجحت العقوبات الروسية على أنقرة، والتى جاءت على خلفية الحادث، فى الإضرار بصورة كبيرة باقتصاد تركيا، ولكن ربما لم يكن الاعتذار التركى كافيا، حيث نجحت موسكو بعد ذلك فى إخضاع الرئيس التركى تدريجيا، عبر تجريده من حلفائه، ومن ثم تقويض طموحاته التوسعية فى سوريا وربما فى المنطقة بأسرها.
حماقة إسرائيلية.. الدولة العبرية فى حاجة لموسكو
وهنا يثور التساؤل حول طبيعة الرد الروسى على الحماقة الإسرائيلية الأخيرة، خاصة وأن الدولة العبرية أصبحت فى حاجة ماسة لموسكو فى المرحلة المقبلة، ليس فقط فيما يتعلق بالساحة السورية، فى ظل مخاوف كبيرة لدى حكومة نتنياهو من جراء الأوضاع الأمنية على الحدود مع سوريا، وإنما تمتد إلى دور أكبر قد تلعبه روسيا فى المرحلة المقبلة فى القضية الفلسطينية، والتى تمثل القضية الرئيسية فى الشرق الأوسط، وتعد الشغل الشاغل للدولة العبرية منذ نشأتها فى عام 1948.
ليبرمان ووزير الدفاع الروسى سيرجى شويجو
فعلى الرغم من أن الولايات المتحدة، الحليف الرئيسى لإسرائيل، كانت اللاعب الرئيسى فى القضية الفلسطينية لعقود طويلة من الزمن، إلا أن موقعها من القضية تغير كثيرا فى الأشهر الماضية، خاصة بعد التوتر الدبلوماسى الكبير بين الإدارة الأمريكية والحكومة الفلسطينية، على خلفية قرارات أمريكية مجحفة، بدأت بالاعتراف الأمريكى بالقدس كعاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى المدينة المقدسة، مرورا بقرار بوقف تمويل "الأونروا"، انتهاء بإغلاق مكتب البعثة الدبلوماسية الفلسطينية فى واشنطن، وبالتالى فهناك حاجة ملحة إلى قوى جديدة ربما تصبح أكثر حيادية يمكنها الفوز بثقة الفلسطينيين من أجل استئناف المفاوضات فى المرحلة المقبلة.
مرونة بوتين.. روسيا تسعى لدور أكبر فى فلسطين
يبدو أن الرئيس الروسى فلاديمير بوتين يدرك تماما حقيقة الحاجة لوجود قوى دولية جديدة لدفع المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية فى ظل التعثر الأمريكى الحالى، وهو ما دفعه إلى الاستعداد للقيام بالمهمة، من خلال توطيد علاقته بإسرائيل والحرص على التنسيق معها فيما يتعلق بالوضع فى سوريا، وتحديدا منطقة الجولان من جانب، بالإضافة كذلك إلى استضافته الرئيس الفلسطينى محمود عباس مرتين خلال هذا العام، ربما لتسويق نفسه كبديل مؤهل للوسيط الأمريكى.
ولعل التصريحات التى أدلى بها الرئيس الروسى، أمس الثلاثاء، تعليقا على الحادث، اتسمت بقدر كبير من المرونة، معتبرا أن الواقعة كانت عبارة عن سلسلة من الأحداث المأساوية العارضة، موضحا أن الرد الروسى سيهدف إلى تأمين سلامة الأفراد العسكريين في الحرب الأهلية السورية المعقدة التى تدعم عدة قوى خارجية أطرافا متحاربة فيها، على عكس البيان الذى أصدرته وزارة الدفاع الروسية، والتى حذرت من ردود محتملة على الحادث.
بوتين يرد على تساؤلات الصحفيين أثناء مؤتمر مع رئيس وزراء المجر أمس
تصريحات الرئيس بوتين تمثل فى جوهرها محاولة واضحة للتخفيف من حدة الرد الذى تبنته وزارة الدفاع فى أعقاب الحادث، حيث أنها تحمل فى طياتها محاولة روسية للاحتفاظ بالعلاقة مع إسرائيل فى المرحلة الراهنة، وربما قطع الطريق أمام أى محاولة من شأنها تقويض المخطط الروسى للقيام بدور أكبر فى قضية السلام، والتى فشلت فيها الولايات المتحدة عبر عقود طويلة من الزمن.
السيناريو التركى.. هل يجرد بوتين إسرائيل من حلفائها؟
المرونة الروسية مع إسرائيل تمثل تكرارا لموقفها السابق مع تركيا، حيث سارعت الإدارة الروسية إلى استعادة العلاقات مع أنقرة بعد اعتذار أردوغان، ربما لينصب له فخا دبلوماسيا لم يدركه الرئيس التركى، حيث وضعه كأحد أضلاع مثلث مباحثات "أستانة"، والتى تضم إلى جانب تركيا كلا من روسيا وإيران، وهو الأمر الذى كان ساهم بصورة كبيرة فى إثارة قلق المعسكر الغربى من جراء الموقف التركى، وبالتالى تجردت أنقرة من حلفائها الغربيين، ليجد أردوغان نفسه يقدم التنازلات واحدا تلو الأخر، ليجد نفسه فى النهاية خارج الحسابات فى سوريا.
بوتين وأردوغان
ربما تكون الظروف الدولية أو طبيعة القضايا التى تربط بين إسرائيل وفلسطين مختلفة عن الوضع مع تركيا، إلا أن الواقع يؤكد أن دخول روسيا على خط الوساطة بين الفلسطينيين والإسرائيليين سوف يثير غضب الولايات المتحدة، وربما تكون النهاية، إذا ما قبلت الدولة العبرية مثل هذا الدور، هو توتر فى العلاقات الأمريكية الإسرائيلية ربما لتخسر حليفها الرئيسى، وتضطر فى نهاية المطاف إلى الرضوخ للإرادة الروسية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة