عبده جبير واحد من أهم كتاب الرواية المصرية الجديدة، وأحد أهم كتاب جيله (جيل السبعينيات)، ذلك الجيل الذى حمل على عاتقه مع الجيل الذى سبقه (الستينيات) عبء الولادة الثالثة للرواية المصرية، فبعد جيل المؤسسين أو الرواد (كهيكل وطه وتوفيق) وجيل الموطنين (كنجيب ومحمد عبد الحليم عبد الله ويوسف إدريس وغيرهم)، جاء جيلا الستينيات والسبعينيات لتستوى الرواية على أيديهم على سوقها، رواية ناضجة، مواجهة، موجعة، تعتنى بالفلكلور دلالة وتأريخا، وتنحو كل مناحى التجريب والتجديد. من هنا يكتسى الحوار مع واحد من أبرز أدباء الرواية الجديدة ببعد خاص، ومن ثمّ كان لنا هذا اللقاء معه.
المبدع عبده جبير بداية ماذا عن البدايات.. ميلاد الإنسان وميلاد الفنان؟
ولدت سنة 1948 بمدينة إسنا لبيت كان يسمونه "بيت العلم"، حيث كان به أكبر عدد من الأزهرية والقضاة، وقد أرخ لهم الأدفوى وغيره، ووالدى كان شيخ معهد دينى، وكان أستاذا لأحمد الطيب شيخ الأزهر الحالى، ودخلت المعهد الدينى لكن لم أكن متحمسا للدراسة فى الأزهر، وبدأت أقرأ كتب الأدب فارتاب والدى منى وعرف أننى لن أساك الوجهة التى اختطها لى، وهى أن أكون شيخا أزهريا، وحاول إثنائى عن القراءة فى الأدب للشعر، لكننى مضيت فى طريقى، وبدأت الخلافات تظهر، وسمعت أن عبد الرحمن الأبنودى وأمل دنقل هربا للقاهرة من أجل الشعر والكتابة، ونجحا فيها، فعزمت على أن أفعل فعلهما، فاشتريت "شنطة" وفصلت "بدلة"، وبالتدريج جمعت فيها ملابسى قطعة قطعة، وكان لوالدى استراحة ريفية يؤجرها لشركة إيطالية، فرتبت أمورى على أول الشهر حين أقبض الإيجار كالعادة، حيث كان يرسلنى لأخده، وبالفعل، أخذت الإيجار وليلا خرجت من البيت، وذهبت لسائق حنطور نائم فأيقظته لتوصيلى لمحطة السكة الحديد المدينة، وهناك أخذت القطار العادة (القشاش) حتى لا يلحظنى أحد من أهل البلد، وبحث عنى والدى فى كل مكان ثم علم أننى عند قريب لى فى القاهرة، عندها عزم على عقابى إن لم أعد لكننى كنت مصرا على عدم العودة، وطلبت منه أوراقى لأحول دراستى لأحد معاهد القاهرة، فرفض فى البداية، ثم وافق بعد أن اقتربت السنة الدراسية الجديدة خشية أن تضيع علىّ السنة الدراسية فأرسل الأوراق.
هنا بدأت علاقتى بالقاهرة، ومن فيها من أدباء وشعراء وكتاب، وسمعت أن عبد الفتاح الجمل يفتح جريدة المسا للأدباء الشبان، وبالفعل نشرت بهذه الجريدة قصتى الأولى "الأمواج" يوم الجمعة، وكنت قد سلمتها للجريدة الأربعاء السابق عليه، ولهذا لم أتوقع أن يتم النشر بهذه السرعة، وقد مثّل ذلك أول عتباتى فى عالم الفن السردى، حيث كان من المعتاد أن الأعمال التى تنشر فى المسا يوم الجمعة تكون موضوعا للنقاش بندوة نجيب محفوظ فى مقهى ريش، وبالفعل فى هذا اليوم تساءل نجيب محفوظ عمن هو عبده جبير، وسأل الحاضرين عن أحد يعرفه، فقمت أنا وقلت له: أنا عبده جبير، فشد على يدى بقوة وطلب لى مشروبا وكان من النادر أن يطلب أحد لأحد شيئا فى هذا المقهى بسبب كثرة عدد الحاضرين.
عبده جبير فى منتجعه بالفيوم
الروائى عبده جبير والناقد عبده جبير، فى رأيك هل يضطر المبدع لأن يتحول إلى ناقد ليكتب عمن كتبوا عنه فى ظل غياب دور الناقد
أنا ليست ناقدا ولا أدعى ذلك، ولا أملك موهبة الناقد ولا أدواته، كل ما فى الأمر أن الفنانين نوعان فى كل المجالات، نوع يعتمد على موهبته وله أعماله العظيمة مثل يوسف إدريس لكن ليس لديه الوعى بقضايا الأدب النوعية أو القضايا النوعية للفن، ومثل هنرى ماتيس وبيكاسو الاثنان فنانان، غير أن الأول له موهبة وليس له رأى، أما الثانى فله رأى وبصر بالقضايا النوعية للفن فهو يعرف ما يفعله، أنا من النوع الذى لى موهبة وفى الوقت ذاته لدى اهتمام بأن أعرف ما أفعل أو أكون واعيا به وأيضا بما يفعله الآخرون، وعندى القدرة على التعبير عن ذاك بالمقالات ولكن هذا لا يعتبر نقدا.
بين الشكل والمضمون هل يأتى فلكلور عبده جبير مقصودا لذاته كأسلوب كتابة حداثى مغرى بالقراءة والترجمة لكونه يمثل إمساكا بالصورة المغادرة قبل أن تغادر أم أنه يأتى كتقنية سردية تحمل دلالة "معنى المعنى"؟
أنا بالنسبة لى الفلكلور جزء مما أسميه الثقافة الشعبية وفى بعض أعمالى ـ وبالذات رواية قيام الفاكهة ـ متبنى الثقافة الشعبية لأعبر بها عما أريد، أنا لا أهتم بالفلكلور كفلكلور أنا أهتم به من خلال تعبيره عن الناس وثقافتهم التى هى خليط من كل الدين الشعبى والدين الرسمى والجنس الشعبى والجنس الرسمى والأداء اليومى من أكل وشرب.
بين القصة والرواية ما الجنس الأدبى الأقرب للملكة الإبداعية للروائى عبده جبير؟
أنا عمرى ما قررت أقعد علشان أكتب حاجة، عندما تأتينى شهوة الكتابة أقعد أكتب، وأحيانا تأتينى هذه الشهوة فى ظروف مختلفة بعضها غير مواتى للكتابة من الأساس، ففى ذات مرة كنت فى مجموعة أنا وزوجتى الخوجاية وبعض أقاربها وأصدقائها فى نزهة بالإسكندرية وكانت إحدى قريباتها شديدة الجمال، فكنت أتحاشى النظر لها احتراما لزوجتى، فحزنت هذه البنت وشكت لزوجتى أننى لا أنظر إليها، فقررت مصالحتها بأن أخبرتها بأننى كتبت عنها قصة، وكنت أرجو أن يمر الأمر وتنسى قصة القصة بمجرد وصولنا إلى القاهرة، لكن ما أن وصلنا حتى طالبتنى بالقصة التى كتبتها عنها، هنا وقعت فى مأزق، فدخلت حجرتى التى أخصصها للكتابة ووضعت أصابعى على آلتى الكاتبة وأخرجت قصة بديعة ترجمت لأكثر من لغة حكيت فيها ما حدث: كاتب يخبر شابة أنه كتب عنها قصة وهو لم يكتب عنها شيئا وعندما تحاصره يضطر للكتابة عنها.
ومرة كنت جالسا على مقهى قذر أنتظر نتيجة التحاقى بالجيش من عدمه، ووسط الذباب وعلى حواف جريدة مطوية كانت معى، بدأت أصابعى باللعب على وتر الكلمات، وعندما عدت لبيتى فوجئت بأننى كتبت قصة عظيمة، هى "أن تستقم أو لا تستقيم"، فالكتابة عندى لا وقت لها ولا جنس أيضا، أكتب قصة أو رواية، هذا من عمل الإلهام لا من عملى، وأنا أؤمن بالإلهام والوحى.
عبده جبير يواصل كتابة الرواية ويعكف على عمل ملحمى عن الصعيد
فى المعترك الثقافى.. ما الفكرة التى إن طرأت على ذهنك تجعلك قلقا وما الفكرة التى إن طرأت على ذهنك أعطتك طاقة إيجابية وجعلتك مستبشرا فرحا؟
لأ.. اجعلها فى الحياة بعامة.. الحقيقة أن أننى كنت قد جربت قلقا وكآبة لم أجرب مثلهما عند وصول الإخوان للسلطة فى مصر، لدرجة أننى لم أكتب فى هذه السنة حرفا واحدا، واعتقدت أننى الوحيد فى هذا، ولكن عندما كنت أتصل بزملائى الفنانين أجدهم مثلى، لقد جاءنا عقم بسبب القلق، فالتخلف والرجعية قادمان بقدوم هؤلاء، ومن ثمّ فلا مستقبل للثقافة معهم البتة.
أما ما يجعلنى مستبشرا وسعيدا هو الأمل الذى ينبثق الآن فى مصر، الواقع يقول بأن مصر بدأت تتعافى ويشع منها الخير، أى نعم توجد مشاكل، ومشاكل كثيرة وكبيرة، لكنها كلها مشاكل تحتاج إلى الوقت، فقط بعض الوقت ويصح الصحيح.
لو عرض عليك أعلى منصب ثقافى تنفيذى (وزير الثقافة مثلا) ما الحلم الذى ستبادر إلى تنفيذه فورا؟
أولا هذا لن يحدث.. لا همّ هايفكروا فيه ولا أنا هاقبله.. إنما فى الحقيقة فوزارة الثقافة دى تستطيع فعل الكثير، فى كل مجال وفى كل مكان، هذه الوزارة تستطيع أن تتحول إلى مصدر من مصادر الدخل القومى، وأن تعيل الدولة وتكيل لميزانتها الخير، وذلك بما لديها من إمكانيات مهولة، أولا خذ عندك مؤسسة السينما، لماذا لا أعيدها وأعيد دورها الرائد، ومفاصل هذه المؤسسة موجودة، شركة دور العرض موجودة، وشركة الاستديوهات موجودة والمعامل موجودة، وأماكن التصوير وغيرها، ألا يمكن تحويل هذه المؤسسة لشركة مساهمة مصرية، وأجعل السينمائيين والمصريين يساهمون بأموالهم فيها، لنخرج إنتاجا شبيها بالعصر الذهبى الذى كنا فيه ننتج من 200 إلى 300 فيلم سنويا؟.. الآن ننتج من 20 إلى 30 فيلما ومعظمها أفلام تجارية تافهة، بلا محتوى.
أيضا قدمت ورقة من فترة للهيئة العامة للكتاب بها بعض الأفكار، منها تشغيل مطابع الهيئة 24 ساعة لصالحها وصالح غيرها من الكتاب، استغلالا لإمكانياتها الكبيرة، أى تعمل عملا تجاريا للغير يدر ربحا، خاصة مع إعادة فتح مكتباتها المنتشرة فى العواصم العربية وتشغيلها مساء وصباحا، واستغلال أراضى المعارض وموظفيها الذين لا يعملون فى العام إلا فى حس معرض ونصف المعرض (أعنى معرض القاهرة للكتاب ومعرض فيصل)، لماذا لا آتى بالموظفين الزائدين عن حاجة الهيئة وأدخلهم للعمل فى مكتباتها المنتشرة فى الداخل والخارج بالفترة المسائية؟.. لماذا لا أدير بهم عددا أكبر من المعارض؟.. لماذا لا أجعل فى كل جامعة ومصنع وشارع معرض متنقل ومعرض ثابت؟؟ ألا أستطيع ـ بهذه الأفكار ـ تحريك التل المكون من أكثر من 30 مليون كتاب موجودين فى مخازن الهيئة؟..
المأساة بمعنى الكلمة هى أن ترى داخل المتحف المصرى 4 زوار مصريين فقط، فى حين أن اللوفر تصطف عليه الطوابير يوميا، أين طلبة المدارس والجامعات من زيارة هذا المتحف وغيره؟.. للأسف البيروقراطية وفكر الموظف المحدود يسيطران على مؤسسات ذات إمكانيات مهولة فيضيع على البلد ـ بهذه الإمكانيات ـ أنهار من عسل ولبن.
ما المشروع الذى يعمل عليه الأستاذ عبده جبير حاليا؟
أنا دلوقت باشتغل على رواية عمرى، 50 عاما من العمل فى هذه الرواية، إنها تشاغلنى منذ عقود، منذ أن كنت يافعا ابن 17 عاما، ومن أجلها جمعت عددا كبيرا من المصادر والكتب الخاصة بالصعيد، ذلك الصعيد الذى لا يجوز ـ فى رأيى ـ أن يتم تناوله براوية أو قصة قصيرة، أنه يحتاج إلى عمل ملحمى ضخم.
أنا من بلد له تقاليده العريقة، مدينة إسنا التى كانت مركزا تجاريا ومديرية ومركزا حضاريا وعلميا كبيرا، وكان بهذا البلد مولد يسمى "المنصورى" وكانت الناس تحضر فى ضيافة هذه العائلة "المنصورى" أو يخيمون على نفقتهم الخاصة، وكانت عائلتى من الصنف الثانى، وكان لهذا المولد برنامج وفاعليات ثابتة وقوية، منها "مرماح الخيل"، وكنت أحضره، وكانت فرس عائلتى اسمها تفاح وكذلك أسماء باقى الخيول منها: برتقالة وعنبة وخوخة.. إلخ، فى أثناء هذا المرماح راودتنى فكرة هذه الرواية، فقمت أكتب عنوانها وفكرتها الرئيسية فى 3 أو 4 صفحات، وكان عنوانها "قيام الفاكهة"، ويدور محورها حول نجاح أهل الصعيد فى استبدال السباق الاقتصادى والاجتماعى وحتى السياسى فى الانتخابات لمجلس النواب وغيره بالثأر، فتركوا الثأر للتنافس فى المضامير الأخرى، ففى بلدنا ما أن تفتح عائلة متجرا كبيرا للأدوات المنزلية مثلا، حتى تفتح العائلة المنافسة متجرا أكبر منه، وهكذا.. جمعت القصص والمعلومات من كتب المؤرخين وغيرهم، ووزعت عددا من الكشاكيل على أطفال البلد لجمع القصص من الجدات والأمهات، وأعطيت لكل طفل يملأ لى الكشكول مكافأة مالية، ووقفت على اللغات والكلمات والأزياء والملابس لتقديم الصعيد فى عمل ملحمى قوى، هذا المشروع هو الذى أعمل عليه الآن.
متى يصدر هذا العمل؟
يصدر الجزء الأول منه فى المعرض القادم والجزء الثانى فى المعرض الذى يليه؟
بمناسبة أن الصعيد لا يليق به إلا عمل ملحمى قوى، هل تعتقد أن للرواية المصرية نسقا خاصا يميزها عن الرواية العربية بعامة؟
أنا عروبى بالمعنى السياسى، وأرى أن الرواية لا يمكن تصنيفها تصنيفا سياسيا ولا غير سياسى، هى فن، والفن يند عن الحواجز والتحديد، ثم كيف يكون للرواية نسق خاص والمجتمع المصرى مجتمع منفتح، فبورسعيد ـ مثلا ـ كان بها 30 جنسية، والإسكندرية قبل الثورة كان بها 90 جنسية، الشعب المصرى مثقف والثقافة ضد التأطير.
عبده جبير ومحرر اليوم السابع
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة