السد العالى هو حصن مصر المنيع وأمنها المائى، وسيظل من أهم المشروعات القومية التى مرت على مصر، ليس فقط لأن بنائه تم فى وقت حرج كانت تمر به مصر بظروف سياسية صعبة، ولكن لأنه كان حلما ولد عقب ثورة دعمها عامة المواطنين وأمنوا بأفكارها.
قصة بنائه تعد ملحمة من حيث العثور على تمويل المشروع ودقة العمل ومدى صبر وقدرة العاملين المصريين، الذين قدموا نموذج عن العامل المصرى أمام العالم أجمع، حتى تمكنوا من إتمام هذا الحلم فى غضون 4 سنوات.
وفى ذكرى رحيل الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، صاحب قرار هذا المشروع الضخم، التقى" اليوم السابع" بأحد الجنود المجهولين فى هذا المشروع العظيم، الذى شارك فى بناء الحلم ورأى تحقيقه أمام عينه، الحاج رفعت عبد الغنى، يبلغ من العمر77 عاما، ترك دمياط واستقر بأسوان لتلبية نداء الزعيم عبد الناصر، ليصبح أحد الفنيين فى مشروع السد العالى منذ عام 1960، يروى خلال السطور التالية كيف كان يمثل هذا المشروع للمصريين وما هى كواليس البناء وكيف كانت حياتهم اليومية حتى اكتمل حلمهم بتغيير مجرى النيل بعد إتمام بناء السد.
يروى الحاج رفعت قائلا: أتذكر كنت أبلغ حينها 18 عاما وقتها التحقت بوظيفة فنى فى هيئة السد العالى التى كانت حين ذلك مقرها القاهرة، برغم أننى كنت مقيم بمحافظة دمياط، وبعد عدة أشهر أصدر المشير عبد الحكيم عامر قرارا بنقل الهيئة إلى محافظة أسوان للبدء الفعلى بالمشروع، تركت أهلى بدمياط وقررت الذهاب والاستقرار بأسوان للعمل بالمشروع، لم أتردد لحظة فى السفر فكان القرار سهلا للغاية، كيف أتجاهل نداء الزعيم عبد الناصر للمشاركة فى هذا المشروع العظيم؟، لم يكن فرق الراتب كبيرا ومغرى للسفر فكان نفس راتبى بالإضافة إلى مبلغ بسيط كبدل اغتراب، وبالفعل وصلت إلى أسوان وبدأت عملى الذى استمر لمدة 40 عاما، فى خدمة السد العالى.
أحد بناة السد العالى: كان هدفنا الأ نخذل عبد الناصر أمام العالم وكان العمل متعة
يقول الحاج رفعت: " كنت ضمن أحد الفنيين بقسم المحفوظات الخاص بحفظ الرسومات الخاصة بجسد السد، كان العمل يتم على ورديات تبدأ من الصباح الباكر، وتنتهى حتى منتصف الليل، كان العمل شاق لكن كانت هناك متعة هو أن يعلم العالم كله أننا قادرون على إنجاز هذا المشروع الضخم، كان هدفنا ألا نخذل الزعيم عبد الناصر، أمام دول العالم التى رفضت أن تمول المشروع سوى الاتحاد السوفيتى وقتها، وعندما جئنا إلى هنا كانت أسوان عبارة عن صحراء وخلال فترة بناء السد تم تأسيس أغلب المناطق السكنية الموجودة بها الآن، حتى أصبحت مدينة متكاملة."
وحول طبيعة الحياة خلال فترة بناء السد، أوضح قائلا: "كان عبد الناصر يمهد للمشروع قبل إطلاق الشرارة الأولى له أمام دول العالم، لذا تقام المستعمرات السكنية لإقامة العاملين، وأقام المطاعم والنوادى ودور السينما، وخطوط المواصلات، وكان أهمها خط السكة الحديد الذى يصل إلى محطة السد العالى الآن، كل هذا يدل على عبقرية هذا الرجل فى التخطيط، وعندما حصل على التمويل سخر كل هذا من أجل بناء السد، وبالفعل نجح فى مشروعه".
وجبة الغداء كانت بـ3 صاغ والسهرات الغنائية ولعب الكرة كان مصدر الترفيه للعاملين وقت الراحة
وحول حياته اليومية كأحد العاملين بالسد، استطرد "كنا نشعر بالسعادة برغم مشقة العمل، فبعد انتهاء فترة عملى أذهب للنوادى للعب الكرة ودور السينما، وحفلات السمر وأضواء المدينة، التى كانت تقام باستمرار ويحضر الينا كافة الفنانين وأبرزهم عبد الحليم حافظ، كنا نتناول يوميا وجبات طعام من أنواع مختلفة من اللحوم ولا يتجاوز سعر الوجبة الواحدة 3 "صاغ"، لم نشعر بالملل وفى وقت العمل عندما كان يصعب علينا مهمة ما أو حمل معدات ثقيلة كنا نشجع بعضنا بالأغانى، حتى أصبح المهندسين الروس يغنون نفس هذه الأغانى بعد أن تعلموها مننا.
الحاج رفعت خلال حديثه لمحررة اليوم السابع
ويضيف:" كان هناك فرق شاسع بين روح العمل وقتها وروح العمل الآن، إلا أن كان هناك مبادئ ثورية نعمل من أجلها، لذا كان العمل يسير مثل الساعة، والمثير أيضا هو انعدام الفوارق الطبقية بالعمل، فنجد المهندس يعمل بيده لمعاونة الفنى فى إتمام مهمة ما دون وجود حساسية بين الطرفين، وكان من ضمن أهم الخدمات التى أقامها الزعيم عبد الناصر تأسيس مدرسة السد العالى التى تخصصت فى تدريب طلاب الثانوية الفنية لبناء وصيانة السد، وبالفعل تمكنت من تخريج دفعات من أمهر الفنيين فى مختلف التخصصات وقامت بإرسال المتفوقين إلى بعثات خارجية إلى روسيا، وهم الذين أصبحوا نواة لجيل كامل من الفنيين العاملين بالسد العالى لحد هذه الفترة الراهنة.
وعن وجهة نظره، لماذا كان العامل المصرى يعمل بدقة بعيدا عن الكسل، أوضح قائلا: "كنا نؤمن بمبادئ الثورة وكان الشباب يعملون نهارا ويحضرون اجتماعات المنظمات السياسية مثل منظمة الاتحاد الاشتراكى وهيئة التحرير، التى كانت تدعو إلى دعم القيادة السياسية لمواجهة الاستعمار، لذا كان الشباب يعملون بحماس ليس له مثيل دعما لمبادئ ثورة 23 يوليو".
الحاج رفعت: لحظة تغيير مجرى النيل لم أنساها وشعرت أننا نجحنا
وعن ذكرى لم تنس خلال عمل الحاج رفعت، ذكر قائلا "لحظة تفجير السد الخلفى والقناة الأمامية لتغيير مجرى النيل، لحظة لم أنساها حينها فقط شعرت أننا نجحنا وتعبنا لم يذهب هباء"
أما عن ذكرى سيئة خلال عمله أيضا أوضح "حادث انهيار أحد الأنفاق نتيجة انفجار كبسولة تفجير، والتى أدت إلى وفاة عدد من العاملين، والحادثة الثانية كانت سقوط بعض الصخور العملاقة على رأس عدد من العاملين أيضا، لكن برغم ذلك تعد نسبة الإصابات والوفيات بهذا المشروع مقارنة بوجود أكثر من 42 الف عامل فى المشروع نسبة ضئيلة".
وعن علاقته بالزعيم الراحل جمال عبد الناصر، ذكر قائلا "كان يزورنا باستمرار فكان مشروع السد العالى هو المشروع المدلل له، فكان دائم التواجد بيننا سرا للاطمئنان على سير العمل دون رفقة الإعلام أو برفقة القيادات السياسية".
لم يتوقف عطاء العاملين بالسد العالى خلال فترة الستينات على إتمام هذا الحلم، بل ذكر الحاج رفعت أنه حينما كانت هناك توتر سياسىى تعيشه مصر وقتها، تم تشكيل قوات الدفاع الشعبى من العاملين المدربين على حمل السلاح وذلك لحماية خطوط الكهرباء من السد العالى وحتى قرية بنبان، ولم يتمكن أحدا من تنفيذ أية تهديدات بضرب السد أو النيل منه.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة