لم يكن الاعتماد الأمريكى على قواتها العسكرية فى إدارة علاقتها الدبلوماسية بالأمر الجديد الذى استحدثه الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، بعد وصوله إلى البيت الأبيض، فى يناير 2017، حيث اعتمدت الإدارات الأمريكية المتعاقبة على حماية أمن الحلفاء، سواء عن طريق المساعدات العسكرية تارة، أو إرسال القوات الأمريكية فى مناطق مختلفة من العالم، للحفاظ على مكانتها الدولية باعتبارها القوى الدولية الوحيدة التى يمكنها قيادة العالم فى السنوات الماضية، تارة أخرى، بينما لجأت إلى استخدام ملف المساعدات العسكرية لإخضاع الحلفاء المخالفين لتوجهاتها تحت ذرائع الديمقراطية وحقوق الإنسان تارة ثالثة، إلا أن الجديد فى رؤية ترامب يتمثل فى تحويل الجانب العسكرى إلى ركيزة العمل الدبلوماسى الأمريكى على حساب المؤسسات المتخصصة فى هذا الشأن وعلى رأسها وزارة الخارجية الأمريكية.
ولعل الحديث الأمريكى المتواتر عن الدور العسكرى الأمريكى، سواء سلبا بالانسحاب طواعية من بعض المناطق فى العالم، أو إيجابا بتعزيز التواجد العسكرى الأمريكى فى مناطق أخرى، دليلا دامغا على سياسة ترامب التى تعتمد بشكل رئيسى على "عسكرة" الدبلوماسية الأمريكية، مع محيطها الخارجى، بالإضافة إلى الزيادة الكبيرة فى ميزانية الإنفاق العسكرى، على حساب وزارة الخارجية الأمريكية، التى لجأت إلى إحالة العديد من كبار دبلوماسييها إلى التقاعد بسبب اتجاه الإدارة إلى خفض النفقات بشكل كبير، منذ وصولها إلى سدة السلطة فى الولايات المتحدة.
الوجود العسكرى باليونان.. رسائل أمريكية إلى تركيا
ففى خطوة جديدة، أعلنت الولايات المتحدة توسيع وجودها العسكرى فى اليونان، حيث أنه من المقرر زيادة عدد الطائرات والسفن الحربية الأمريكية فى الأراضى اليونانية فى المرحلة المقبلة بالإضافة إلى تكثيف التدريبات العسكرية المشتركة بين القوات الأمريكية ونظيرتها اليونانية، وهو ما اعتبره رئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال جوزيف دونفورد، فى تصريحات نقلتها عدة وكالات أنباء أمس الثلاثاء، بمثابة فرصة مهمة لتكثيف العمليات العسكرية فى عدة مناطق بالعالم.
اجتماع بين القيادات العسكرية الأمريكية واليونانية
التوجه الأمريكى نحو اليونان يتزامن مع توتر كبير فى العلاقات بين الولايات المتحدة وتركيا فى المرحلة الراهنة، على خلفية الرفض التركى للإفراج عن القس الأمريكى المحتجز أندرو روبنسون، وهو ما يحمل فى طياته العديد من العديد من الأهداف الأمريكية، لعل أهمها تعزيز الوجود الأمريكى بالقرب من تركيا، بالإضافة إلى محاولة إيجاد بديل لقاعدة أنجرليك الأمريكية فى الأراضى التركية، خاصة إذا ما اضطرت الولايات المتحدة إلى الانسحاب من أنقرة إذا ما ازدادت الأوضاع بين البلدين تدهورا.
وتتزامن الخطوة الأمريكية تجاه أثينا كذلك مع محاولات الرئيس التركى لتحسين العلاقات بين البلدين، بعد التدهور الكبير الذى شهدته العلاقات بين البلدين فى الأشهر الماضية، حيث سعت أنقرة لاسترضاء الحكومة اليونانية فى الأيام الماضية عن طريق الإفراج عن جنديين يونانيين اتهمهما النظام التركى بانتهاك المياه الإقليمية التركية، فى سبيل توسيع التعاون الاقتصادى بين البلدين فى محاولة يائسة للتخفيف من تداعيات العقوبات الأمريكية على تركيا، وبالتالى فربما تحمل الخطوة الأمريكية هدفا أبعد يتمثل فى قطع الطريق أمام أردوغان أمام استرضاء أوروبا وبالتالى مواصلة التعنت فى مواجهة الإدارة الأمريكية.
اليونان ليست سابقة.. كيف أجبر ترامب أردوغان على الرضوخ فى سوريا؟
والملفت أن استخدام الإدارة الأمريكية للملف العسكرى فى التعامل مع تركيا عبر بوابة أثينا لم يكن الأول من نوعه، حيث اتجه الرئيس الأمريكى نحو التلويح بورقة الانسحاب من سوريا فى مارس الماضى، بحجة التخفيف من التزامات أمريكا المالية والعسكرية فى الشرق الأوسط، وهو ما تزامن مع توتر أمريكى تركى حول الدور الذى لعبته أنقرة فى الأراضى السورية، وخاصة فى عفرين، حيث لجأ أردوغان إلى استخدام القوة العسكرية ضد الأكراد، رغم الاعتماد الأمريكى عليهم فى الحرب على داعش، وهو الأمر الذى هدد باندلاع مواجهة مباشرة بين القوات الأمريكية ونظيرتها التركية على الأراضى السورية.
العلاقات التركية الأمريكية اتسمت بالتوتر فى الآونة الأخيرة
التلويح الأمريكى السابق بالانسحاب من سوريا ربما لم يكن يستهدف ترويض الحليف التركى المارق فقط، ولكن امتد لتحقيق أهداف دبلوماسية أخرى، لعل أبرزها الوصول إلى صفقة مع روسيا للضغط تركيا وإيران، خاصة مع غياب التوافق التام بين أجندة موسكو فى الأراضى السورية من جانب، والرؤى التركية الإيرانية هناك من جانب آخر، وهو الأمر الذى بدت ملامحه فى ظل رغبة موسكو فى إخراج القوات الإيرانية من سوريا، وكذلك ضغطها على أنقرة لإنهاء دعمها للعديد من الميليشيات المتطرفة، والتى يحاول نظام أردوغان وضعها فى نفس الكفة مع المعارضة السورية.
الوجود العسكرى الأمريكى.. دبلوماسية ترامب تجاه الخصوم والحلفاء
ولم يقتصر الاستخدام الأمريكى للورقة العسكرية على مجرد الضغط على الخصوم وإنما فى بعض الأحيان استرضائهم على حساب أقرب حلفاء الولايات المتحدة، وهو الأمر الذى امتد إلى أقرب حلفاء أمريكا التاريخيين، وعلى رأسهم دول الغرب الأوروبى، حيث سعى الرئيس ترامب إلى التلويح عدة مرات بإمكانية الانسحاب من حلف الناتو، إذا رفضت الدول الأعضاء الالتزام برفع ميزانياتها الدفاعية، وهو الأمر الذى يساهم من جانب فى تخفيف الضغوط على الاقتصاد الأمريكى، وكذلك الحد نسبيا من الالتزامات العسكرية الأمريكية تجاه الحلفاء الأوروبيين، بعدما تكبلت الولايات المتحدة لعقود طويلة بحماية الأمن الأوروبى عبر الناتو، بالإضافة إلى مغازلة روسيا، والتى تعد بمثابة الخصم التاريخى للولايات المتحدة، والتى دائما ما تشعر بالريبة تجاه نوايا المعسكر الغربى تجاهها.
قمة ترامب كيم فى سنغافورة
سعت إدارة ترامب كذلك لاستخدام هذا الملف العسكرى كذلك لاسترضاء خصوم آخرين للولايات المتحدة، مقابل الحصول على تنازلات من جانبهم لتحقيق نجاحات دبلوماسية، يستطيع الرئيس الأمريكى الترويج لها من أجل تحسين صورته فى الداخل الأمريكى، وهو الأمر الذى بدا واضحا فى التعامل الأمريكى مع الملف الكورى الشمالى، حيث قررت الإدارة الأمريكية فى أعقاب القمة التاريخية التى عقدها ترامب مع نظيره الكورى الشمالى كيم جونج أون تجميد المناورات العسكرية مع كوريا الجنوبية، فى خطوة اعتبرها قطاع كبير من المتابعين تمهيدا لانسحاب أمريكى محتمل من كوريا الجنوبية.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة