على مدار الأعوام الأخيرة باتت قضية طائفة الروهينجا المسلمة فى ميانمار عنوانا يتجدد كل عام بتنويعات دالة على أن هذه المأساة الإنسانية ثمرة مريرة لثقافة التطرف وسط اتفاق عام بين المثقفين حول العالم بشأن ضرورة معالجة جذورها.
وإن تعددت الطروحات والكتابات حول تعريف المثقف وتطرق البعض لأدوار المثقف، ومن بينها دور (الملاحظ لحركة التاريخ والمشارك فى صنعها)، فلا ريب أن مأساة الروهينجا تشكل اختبارا عمليا لمدى صحة مثل هذه المقولات فى خضم الواقع وصدقية مقولة "المثقف الملاحظ المشارك"؛ أى الذى يشارك فى أوجه الحياة العامة والأنشطة الإنسانية ويلاحظها ويتعامل معها بنظرة نقدية على أمل الوصول للأفضل.
وقد تكون مأساة الروهينجا علامة لعصر فى القرن الـ21، وهى بالتأكيد كمأساة ناجمة فى المقام الأول عن التطرف ونبذ التنوع ورفض الآخر جديرة بكتب متعددة فى هذا القرن، مثلما حظى القرن الماضى بكتب مازالت تثير تقاشات بين المثقفين حول العالم مثل كتاب (عصر التطرفات.. القرن العشرون الوجيز) لمثقف غربى كبير هو اريك هوبزباوم الذى رحل عام 2012.
والبريطانى اريك هوبزباوم، الذى يعد من أبرز مؤرخى القرن العشرين، ولد عام 1917 فى مدينة الإسكندرية وانتقل مع عائلته من ذلك الثغر المصرى ليطوف بين كبريات المدن فى الغرب، مثل فيينا وبرلين ولندن، ويعمل كأكاديمى فى الجامعات البريطانية والأمريكية وتتركز أعماله الثقافية على تاريخ أوروبا.
والمثير للتأمل أن مأساة الروهينجا وصلت لذروتها بالتزامن مع التطورات المذهلة فى ثورة الاتصالات والمعلومات؛ حتى أن بعض الكتابات ذهبت إلى أن الثراء غير المسبوق لمصادر المعلومات وتراكمها يتيح الآن للمؤرخين تجاوز الشرط التقليدى لكتابة التاريخ أى كتابته أو توثيقه بعد انقضاء الأحداث مادامت المعلومات التى تواكب الأحداث حاضرة بوفرة من مصادر متعددة.
وبالطبع فإن الصحافة ووسائل الإعلام ككل تدخل ضمن هذه المصادر للمعلومات حتى أن المؤرخ الراحل أريك هوبزباوم اعتمد عليها لحد كبير فى السنوات الأخيرة من القرن الـ20 فى كتاباته وكتبه حول تاريخ التغير الاقتصادى والثقافى والاجتماعي، ومن بينها كتابه الأشهر (عصر التطرفات)، فيما صدر له من قبل "عصر الثورة" و"عصر الرأسمالية" و"عصر الإمبراطورية".
وإذا كان أريك هوبزباوم قد افتتح كتابه (عصر التطرفات)، الذى صدرت طبعته الأولى عام 1994 بإشارة دالة لسراييفو عاصمة البوسنة فى وقت احتتدمت فيه "حرب البوسنة والهرسك" لتسفك الكثير من الدماء ويسقط آلاف الضحايا، فإن مأساة الروهينجا لها أن تجد من المؤرخين من يضعها فى سياقها الثقافى كثمرة مريرة من ثمار نكدة لثقافة التطرف.
وها هى التقارير الإخبارية تتواتر حول جديد التداعيات لمآساة الروهينجا أو تلك الفئة المعذبة من البشر، والتى فر منها نحو 700 ألف شخص منذ أكثر من عامين تاركين ديارهم فى ميانمار بحثا عن ملاذ امن فى بنجلاديش، التى تسعى لإعادتهم لبلادهم تخففا من أعباء ينوء بها كاهل هذا البلد الواقع فى جنوب آسيا.
وفى المقابل، كما تفيد هذه التقارير الإخبارية فان أبناء الروهينجا يرفضون العودة لميانمار لخشيتهم من تعرضهم مجددا لممارسات التنكيل والاضطهاد العرقى والثقافى مفضلين البقاء فى بنجلاديش رغم معاناتهم من قسوة الواقع فى مخيمات اللاجئين وبما يعكس "أزمة ثقة فى نوايا النظام الحاكم فى ميانمار"، فيما رأت الأمم المتحدة أن الأوضاع ليست مواتية بعد لعودة هؤلاء اللاجئين لوطنهم.
وكان الدبلوماسى الأمريكى بيل ريتشاردسون قد اعتبر فى سياق استقالته فى العام الماضى من لجنة دولية استشارية شكلتها الأمم المتحدة لبحث أزمة الروهينجا أن أونج سان سو كى زعيمة حزب "الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية" الذى يدعى الليبرالية؛ تفتقر لمعطيات القيادة الأخلاقية لميانمار، فيما يتعلق بمسؤولياتها كزعيمة فعلية للبلاد حيال طائفة الروهينجا وبخاصة فى ولاية راخين، والتى شهدت حالات إعدام جماعى لمنتمين لهذه الطائفة.
والمهمة الصعبة لزعيمة حزب الأغلبية فى ميانمار تتعلق بتفكيك بنية التطرف فى بلادها، والتى تشكل مصدر قلق لمثقفين فى الشرق والغرب، ومن بينهم الكاتب والناقد الثقافى والمتخصص فى التاريخ الآسيوى جافين جاكوبسون، الذى سلط أضواء كاشفة على جذور الموجة الأخيرة للعنف والكراهية فى ميانمار.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة