لا يحمل الفن قيما جمالية فحسب، بل يحمل العديد من الأسرار والحكايات والخبايا، يتحول الفن في لحظة ما إلى شاهد على الحقيقة ، وفي لحظة أخرى إلى الحقيقة ذاتها، يأخذ الفن أبعادا لم يفكر فيها الفنان، ولم يتخيلها المؤرخ، واليوم نحن على موعد مع قطعة من هذه القطع التي تثبت هذه الأفكار، وتمنحنا مزيدا من الثقة في الفن والفنانين، بل لا أبالغ إذا قلت إن تلك ومثيلاتها جديرة بأن تغير معنى الفن المتداول في الإذهان.
هذا التمثال هو تمثال الخديوي اسماعيل، وسأترك هنا الناقد الكبير الراحل صبحي الشاروني ، يحدثنا عنه فقد قال رحمه الله "حقق فن النحت تقدما ملحوظا خلال القرن العشرين رغم توقف حركة اقامة تماثيل الميادين الموضوعية التي تذكر الأمة بعظمائها وانحسرت في تماثيل أسرة محمد علي وقد ارتفعت في ميدان الإسماعيلية "ميدان التحرير الآن" قاعدة جرانيتية شديدة الجمال والعظمة ليثبت عليها تمثال اسماعيل باشا "الخديو اسماعيل" ولكن قيام الجيش بتولي الحكم عام 1952 جعل التمثال البرونزي الجميل الذي قام بتشكيلة الفنان مصطفي متولي "1911 1988" يدخل الي المتحف الحربي. وتبقي القاعدة الجرانيتية بغير تمثال رغم المسابقة التي نظمت لتمثال عن التحرير تأكيدا للتسمية التي اطلقت علي الميدان.. واكتشفنا بعد زمن طويل أن مجلس قيادة الثورة كان يعتنق أفراده أفكاراً معادية للفن وخاصة فن النحت. ولم يعلنوا عن عدائهم صراحة.
هذا ما قاله الشاروني عن قصة تمثال الخديوي اسماعيل ومصيره، وقد كتبت في 2017 مقالا أناشد فيه محافظة القاهرة وضع هذا التمثال في مكانه، خاصة بعد أن صرح محافظ القاهرة وقتها المهندس عاطف عبدالحميد بأنه يتبنى فكرة وضع تمثال للخديو إسماعيل فى العاصمة التى أنشأها وهي "القاهرة الخديوية" وقلت إنه من الأشياء التي أسعدتني حديثه عن فضل هذا الخديو صاحب المشاريع التحديثية العملاقة لكني في ذات الوقت لمت عليه نية المحافظة في استنساخ تمثالا صنعه أجنبي للخديوي اسماعيل وهو التمثال الموجود حاليا بمنطقة كوم الدكة بمحافظة الإسكندرية، وأن المحافظة في فى إطار احتفالها بمرور 150 عاما على إنشاء القاهرة الخديوية، اتفقت مع وزارة الآثار على تنفيذ نموذج طبق الأصل من تمثال «الخديو إسماعيل» بالإسكندرية، وتمثال «الخديو إسماعيل» المشار إليه هنا صنعه النحات الإيطالى «بيترو كالونيكا»، وفى الحقيقة فإنى برغم سعادتى بفكرة وضع التمثال معتبرا هذا القرار قرارا مستنيرا فإنى أرى أن مسألة استنساخ تمثال «كالونيكا» أمرا غير مستساغ، لأنه أولا وأخيرا نسخة من تمثال وليس تمثالا أصليا، كما أن مبدعه ليس مصريا، وفكرة وضع تمثال واحد لفنان غير مصرى فى أكبر محافظتين فى مصر توحى بأن مصر عقمت عن إنجاب فنانين حقيقيين، فهل هذا ما نريد؟
في هذا المقال كما رأيت استنكرت استنساخ تمثال "كالونيكا" وأهديت المحافظة الحل، قائلا: لماذا نصنع نسخة من تمثال أوروبى لنضعه فى ميداننا، ليكلفنا أمولا طائلة ويصمنا بالجفاف الفنى فى حين أن للخديو إسماعيل تمثالا ميدانيا عظيما على قدر كبير من الجودة والجمال؟ وقد كان من المفترض أن يوضع هذا التمثال فى ميدان التحرير لولا قيام ثورة يوليو التى كانت على عداء مع عائلة محمد على، فأبعدت التمثال إلى المتحف الحربى وبقيت القاعدة الجرانيتية التى كانت مخصصة له بغير تمثال، وبالمناسبة فإن هذه القاعدة الجرانيتية محفوظة الآن فى مخازن محافظة القاهرة، والتمثال فى المتحف الحربى، فلماذا لا نصل ما انقطع من التاريخ، ونرد الفضل لأهله، ونحتفى بفنانينا العظماء فى ذات الوقت؟
حتى هنا كانت المعلومات المتاحة تقول إن هذا التمثال في المتحف الحربي وأن القاعدة في مخازن محافظة القاهرة، لكن الحقيقة كان لها رأي آخر، وهو ما سيتم عرضه في معرض "ملامح عهد" الذي ينظمه الفنان المصري المحترف "إيهاب اللبان" مدير مجمع الفنون" بالزمالك، فسيشهد هذا المجمع في 27 من الشهر الحالي عرض تمثال المثال مصطفى متولي للخديوي اسماعيل ربما للمرة الأولى في تاريخه، وبحسب تصريح "اللبنان" فإن الفحص الدقيق للتمثال ومراجعة بياناته أدت إلى الكشف عن كونه نسخة أصلية بالحجم الطبيعي، لتمثال الخديوي إسماعيل الذي كان مزمعاً إقامته في ميدان الإسماعيلية (التحرير حالياً) مؤكدا أن هذا الكشف يكتسب هذا الكشف أهمية تاريخية كبيرة؛ نظراً لإماطته اللثام عن مصير هذه القطعة، التي كان عدد من الكتاب والنقاد والصحفيين قد أكدوا اختفاء كل أثر لها، وقدم كل منهم تفسيرات لهذا الاختفاء لم تؤكدها أدلة حاسمة.
كيف إذن تأكد "مجمع الفنون" من أن التمثال المزمع عرضه هو تمثال "متولي" للخديوي اسماعيل؟ يجيب اللبان: بيانات السجل الرسمي التي توثق هذا التمثال أثبتت أنه من إبداع فنانٍ مصري، وقد وقع عليه الفنان "مصطفى متولي" بشكل واضح واضعا تاريخ 1951 تاريخا له ويضيف اللبان: تتجلى أهمية هذا الكشف في حسمه لإشكالية تأريخية كانت شائعة ومتداولة بين عدد ممن تعرضوا للكتابة حول هذا الموضوع، وهي إشكالية كانت تتمثل في خلطهم بين هذا التمثال، وبين شبيه له لا يزال موجوداً بالإسكندرية حتى الآن وفي أثناء الإعداد للمعرض الحالي، ومراجعة بيانات السجل الرسمي المذكور، ومضاهاة تكوين التمثال وتفاصيله بما تضمنته عدة مصادر من مواد وثائقية وصور أصلية، تأكدت هوية التمثال بما يحسم أمر تلك المغالطات الشائعة السابق ذكرها، وتوثيقا لهذا الكشف سيقيم "مجمع الفنون" ندوة خاصة لسرد تفاصيل هذا الكشف، في مساء اليوم التالي مباشرةً لافتتاح المعرض، وسوف تشتمل الندوة على محاضرة مصحوبة بعرض ضوئي شارحة، يحاضر فيها الدكتور ياسر منجي، القائم بالإعداد البحثي للعرض وكتابة نَص الدراسة التوثيقية المنشورة بكتالوج المعرض.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة