انتصار دبلوماسى كبير حققه نظام الرئيس الفنزويلى نيكولاس مادورو فى مجلس الأمن على الولايات المتحدة، ومن ورائه خصومها التاريخيون، وعلى رأسهم روسيا والصين، حيث فشلت واشنطن فى استصدار بيان من شأنه الاعتراف بالجمعية الوطنية الفنزويلية، والموالية لها، على حساب النظام الحاكم، وهو ما يمثل تكرارا للمشهد الذى شهدته العديد من مناطق الأزمات حول العالم، فى العقود الأخيرة، حيث كان التحالف الروسى الصينى سببا فى عرقلة مشروعات تبنتها أمريكا وحلفاؤها الغربيون، لإعادة صياغة العالم بحيث يمكنها تحقيق الهيمنة والنفوذ.
ولعل التدخل الأمريكى لتغيير الأنظمة المناوئة لها ليس بالأمر الجديد تماما، فقد سبق وأن لعبت واشنطن الدور الأكبر فى عزل الرئيس الأوكرانى السابق فيكتور يانكوفيتش، والمعروف بموالاته لروسيا، والاعتراف بالنظام الجديد، وهو الأمر الذى دفع باتجاه خطوات روسية، على رأسها ضم شبه جزيرة القرم، ودعم استقلالها الكامل عن السيادة الأوكرانية، خاصة أن الروس اعتبروا التحرك الأمريكى بمثابة تهديد صريح لهم فى منطقة تمثل عمقا استراتيجيا لهم، كما أنها تحمل بعدا رمزيا، إذا ما وضعنا فى الاعتبار أن الأراضى الأوكرانية كانت جزءا من الاتحاد السوفيتى، وتمثل جزءا من مناطق النفوذ الروسى.
اعتراف أمريكى سريع.. واشنطن تخشى تسلل موسكو لمحيطها الجغرافى
إلا أن الجديد فى الأزمة الفنزويلية تتمثل فى البعد الجغرافى، حيث تعد فنزويلا جزءا من المحيط الجغرافى للولايات المتحدة، وهى المنطقة التى سعى الرئيس الروسى فلاديمير بوتين إلى مزاحمة النفوذ الأمريكى بها، عبر دعم أنظمتها المناوئة للولايات المتحدة، وعلى رأسهم نظام الرئيس نيكولاس مادورو، وهو الأمر الذى بدا واضحا فى الدعم الذى قدمته روسيا لفنزويلا سياسيا واقتصاديا فى الآونة الأخير فى تحد صريح للإرادة الأمريكية الساعية إلى تنصيب حكومة جديدة موالية لها، وتكرار السيناريو الأوكرانى من جديد.
التقارب الروسى الفنزويلى فى الآونة الأخيرة ساهم بصورة كبيرة فى التحرك الأمريكى السريع نحو الاعتراف بشرعية رئيس البرلمان خوان جوايدو، والذى أعلن تنصيب نفسه رئيسا انتقاليا للبلاد، وذلك نكاية بمادورو المناوئ لواشنطن، بالإضافة إلى الحديث المتواتر عن تثبيت روسيا لأقدامها فى الأراضى الفنزويلية مؤخرا، خاصة مع زيادة التعاون العسكرى بين البلدين، والذى دفع بعض المتابعين والمحللين إلى التنبؤ بإمكانية تأسيس قاعدة روسية جديدة هناك، وقيام موسكو بمنح كاراكاس قذائف يمكنها حمل رؤوس نووية قصيرة المدى، فى تهديد صارخ للأمن الأمريكى.
كابوس كوبا.. ترامب لا يرغب فى تقديم تنازلات لموسكو
ويعد توقيت التعاون العسكرى المتزايد بين روسيا وفنزويلا بمثابة جرس إنذار للولايات المتحدة، فى ظل تزامنه مع اقتراب دخول القرار الأمريكى بالانسحاب من معاهدة القوى النووية التى أبرمتها واشنطن مع الاتحاد السوفيتى فى الثمانينيات من القرن الماضى، وبالتالى فكان خيار الإطاحة بمادورو بمثابة الورقة الأخيرة التى يمكن للولايات المتحدة استخدامها لدحض أى تهديد محتمل من قبل موسكو، يمكن أن تفرضه كرد فعل للقرار الأمريكى المثير للجدل.
ويمثل التحرك العسكرى الروسى فى المحيط الجغرافى للولايات المتحدة هاجسا تاريخيا لواشنطن، منذ أزمة الصواريخ الكوبية فى الستينيات من القرن الماضى، عندما نشر الاتحاد السوفيتى صواريخا موجهة إلى واشنطن فى الجزيرة الكوبية فى عام 1962، وهى الأزمة التى كادت أن تدفع باتجاه اندلاع حربا نووية فى ذلك الوقت، لولا التنازلات التى قدمها الرئيس الأمريكى الأسبق جون كيندى وأهمها إزالة جميع قواعد الصواريخ الموجودة على الحدود التركية السوفييتية، مقابل أن يتخذ الاتحاد السوفيتى الخطوة نفسها فى كوبا.
وهنا تدرك إدارة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب أن تبعات التحرك الروسى فى فنزويلا، فى حالة استمرار النظام الموالى لها هناك، لن تمر دون تقديم تنازلات صعبة، ربما لا تقتصر على مجرد التراجع عن الانسحاب من اتفاقية معاهدة "القوى النووية"، وإنما تمتد إلى مطالبات أخرى ربما تتعلق بمحاولات الإدارة الأمريكية لحصار موسكو، وتدخلاتها فى مناطق تمثل عمقا استراتيجيا لها، كما حدث فى أوكرانيا قبل عدة سنوات.
التمدد الروسى.. واشنطن لم تحظ بثقة أنظمة أمريكا اللاتينية المارقة
ولعل المحاولات الروسية فى التسلل إلى العمق الاستراتيجى للولايات المتحدة ارتبطت إلى حد كبير بالتحرك الأمريكى المناوئ لروسيا، ففى أعقاب الدعم الأمريكى لجورجيا فى أزمة انفصال إقليم أوسيتيا الجنوبية، أعلن الرئيس الفنزويلى السابق هوجو تشافيز ترحيبه بإقامة قواعد عسكرية فى بلاده، كما أعلن وزير الدفاع الروسى سيرجى شويجو فى عام 2014، وفى أعقاب الأزمة الأوكرانية نية بلاده زيادة الدعم العسكرى وإقامة قواعد عسكرية فى أمريكا اللاتينية، خاصة فى فنزويلا وكوبا ونيكاراجوا.
يبدو أن الرئيس الأمريكى السابق باراك أوباما حاول قطع الطريق أمام محاولات التمدد الروسى، عبر اتخاذ مبادرات من شأنها تحسين العلاقات مع الأنظمة المارقة بتلك المنطقة، وهو ما بدا واضحا فى الزيارة التاريخية التى قام بها إلى كوبا، إلا أن الخطوات التى اتخذتها واشنطن لتحقيق هذا الهدف ربما لم تكن كافية لكى تفوز بثقتهم فى السنوات الماضية، وهو ما ساهم فى نجاح موسكو فى مواصلة طريقها لتقوية نفوذها فى تلك البقعة الجغرافية، لتكون بمثابة الكابوس الذى يطارد واشنطن فى المرحلة المقبلة.