فى الوقت الذى تعانى فيه المفاوضات الأمريكية الكورية الشمالية من حالة من الركود والتعثر بسبب انعدام الثقة المتبادل بين الجانبين، تبقى التصريحات والتغريدات، السبيل الذى تنتهجه قيادة الدولتين لكسر تلك الحالة من الجمود، حيث أعرب زعيم كوريا الشمالية كيم جونج أون مؤخرا عن استعداده للقاء نظيره الأمريكى فى أى وقت، بينما رد عليه الرئيس دونالد ترامب، عبر حسابه على موقع "تويتر"، بتأكيده على تطلعه للقاء كيم، فى انعكاس صريح للتحول الكبير الذى تشهده هوية الصراع بين البلدين، لتصبح لغة الدبلوماسية الأكثر وضوحا، بعيدا عن لهجة التهديدات العسكرية التى طالما ما سيطرت على لغة الحوار بين واشنطن وبيونج يانج لسنوات طويلة.
ولعل تغريدة ترامب ليست الأولى من نوعها، فقد سبق له وأن أعرب عن تطلعه لعقد قمة ثانية مع كيم، خلال الأسابيع الماضية، بعد لقائهما الأول فى سنغافورة، فى شهر يونيو الماضى، حيث أكد فى أعقاب لقاءه مع الرئيس الصينى شى جين بينج، أنه قد يلتقى مع زعيم كوريا الشمالية فى بداية العام الجديد، إلا أن التغريدات والتصريحات المتبادلة لم تكن مصحوبة بأى بادرة حقيقية على الأرض من شأنها إزالة العقبات والتحديات التى تعوق تحقيق أى تقدم فى المفاوضات الراهنة، وعلى رأسها رفع العقوبات الأمريكية المفروضة على بيونج يانج، والتى يضعها نظام كوريا الشمالية على رأس أولوياته فى المرحلة الراهنة لاستكشاف النوايا الأمريكية فى المفاوضات حول قضية نزع السلاح النووى.
منحى مخالف.. واشنطن تفرض مزيد من العقوبات
إلا أن النهج الأمريكى يبقى مناقضا لتطلعات بيونج يانج، حيث اتخذت واشنطن منحى مخالف للتوقعات، بفرض عقوبات جديدة على مسئولين كوريين شماليين، الشهر الماضى، على إثر اتهامهم بارتكاب انتهاكات لحقوق الإنسان، وهو ما أثار حفيظة النظام الحاكم فى كوريا الشمالية، والذى صب جام غضبه على وزارة الخارجية الأمريكية باعتبارها صاحبة القرار، معتبرا أن الخطوة سوف تساهم بصورة كبيرة دحض الجهود الهادفة إلى إخلاء شبه الجزيرة الكورية من السلاح النووى.
ترامب وكيم
ولكن رفع العقوبات الأمريكية ليس المحور الوحيد الذى تتبناه دبلوماسية بيونج يانج فى مفاوضاتها مع واشنطن فى المرحلة الراهنة، حيث امتد حديث زعيم كوريا الشمالية إلى التدريبات العسكرية بين سيول وواشنطن، والتى تراها كوريا الشمالية تهديدا صريحا لأمنها، ومصدرا للتوتر فى العلاقات لسنوات طويلة، وهو ما يمثل انعكاسا صريحا لرغبة قديمة لدى قيادة الدولة المارقة، والتى كانت دائما ما تنظر بعين القلق إلى التعاون العسكرى بين الولايات المتحدة وحلفائها فى شرق آسيا، وعلى رأسهم كوريا الجنوبية واليابان.
زخم دبلوماسى.. كيم يراهن على رغبات ترامب
ويمثل القلق الكورى الشمالى من الوجود العسكرى الأمريكى على حدودها الجنوبية ليس الدافع الوحيد وراء مطالب كيم، خاصة وأن قمة سنغافورة ربما ساهمت بصورة كبيرة فى انحسار خطر الحرب، على الأقل لعدة سنوات، وهو ما يطرح تساؤلات عدة حول ما إذا كانت بيونج يانج تحاول ممارسة ضغوط أكبر على واشنطن، فى المرحلة الراهنة، استغلالا لحالة الزخم السياسى والدبلوماسى التى باتت تحظى به "الدولة المارقة"، على المستوى الدولى، منذ نجاحها فى فرض نفسها كلاعب رئيسى فى القارة الآسيوية فى الأشهر الماضية، بفضل تحركاتها الدبلوماسية الناجحة منذ بدء المفاوضات مع الإدارة الأمريكية فى العام الماضى، وبالتالى فهى تسعى لتحقيق انتصارا دبلوماسيا ملموسا على القوى الدولية العظمى عبر إجبارها على الرضوخ لرغبتها بالانسحاب العسكرى من شبه الجزيرة الكورية.
تنصل ترامب من التزاماته يثير حلفاء واشنطن
مسألة الوجود العسكرى الأمريكى فى كوريا الشمالية كانت أحد أبرز القضايا المثارة قبيل قمة ترامب – كيم، حيث كادت أن تنهى أمال انعقادها بسبب إصرار بيونج يانج على إنهاء الوجود الأمريكى فى المنطقة كشرط أساسى للقاء التاريخى مقابل تجميد أنشطتها النووية، إلا أنها تراجعت بعد ذلك، وتحديدا فى أبريل من العام الماضى (قبل انعقاد القمة بحوالى شهرين)، ربما لأن النظام الحاكم فى كوريا الشمالية أدرك أن الثمار التى سيجنيها من وراء القمة التى عقدت فى سنغافورة تبقى أهم بكثير من مكاسب ضيقة لن تتحقق فى حالة التعنت الأمريكى المتوقع تجاه مثل هذا المطلب، خاصة وأن أى قرار من واشنطن فى هذا الصدد سيؤدى إلى توتر كبير فى العلاقات بين الولايات المتحدة وحلفائها فى آسيا.
تنازل كوريا الشمالية عن مطلبها قبيل انعقاد القمة لم يكن أبديا، وإنما كان يحمل فى طياته رهانا ضمنيا، ليس فقط على القمة ومكاسبها الدبلوماسية، وإنما كذلك على رغبة الرئيس الأمريكى دونالد ترامب فى تخفيف الوجود العسكرى فى العديد من مناطق العالم، وبالتالى شعرت القيادة الحاكمة فى بيونج يانج أن خطوة الانسحاب العسكرى الأمريكى قادمة، خاصة وأن تصريحات ترامب منذ دخوله البيت الأبيض حملت إشارات واضحة على رغبة الإدارة الأمريكية فى التخفيف من التزاماتها العسكرية، سواء تجاه الحلفاء فى أوروبا أو الشرق الأوسط، وبالتالى فيصبح حلفاء واشنطن فى آسيا ليسوا بعيدا عن الرؤية نفسها التى يتبناها ترامب، والتى تقوم على إعادة هيكلة العلاقات مع الحلفاء، وهو ما بدا واضحا فى الإجراءات التجارية التى أعلنها الرئيس الأمريكى تجاه الحلفاء والتى لم ينجو منها بالطبع حلفاءه فى القارة الصفراء.
مفارقة مثيرة للانتباه.. سوريا ألهمت زعيم كوريا الشمالية
ولعل المفارقة المثيرة للانتباه أن مطالبة كيم بالتوقف عن إجراء تدريبات عسكرية مشتركة بين واشنطن وسيول تزامنت مع إعلان واشنطن انسحابها العسكرى من سوريا، وهو القرار الذى ربما ألهم زعيم كوريا الشمالية للإعلان عن رغبته من جديد، وذلك بعد نجاحه الكبير فى فرض وجوده الدبلوماسى على الساحة الدولية، خاصة وأن القرار الأمريكى يمثل أول ترجمة عملية لتخلى الولايات المتحدة عسكريا عن حلفائها المشاركين فى التحالف الدولى الذى يعمل تحت قيادتها فى سوريا، وبالتالى سيكون مقدمة لقرارات أخرى فى نفس الاتجاه فى المستقبل القريب.
الانسحاب الأمريكى فى سوريا يلهم كيم جونج أون
ويهدف الضغط الكورى الشمالى على واشنطن لإنهاء المناورات العسكرية مع كوريا الجنوبية فى هذا التوقيت فرصة مهمة لدق اسفين فى العلاقات بين الولايات المتحدة وحلفائها فى آسيا، خاصة وأن مثل هذا القرار يمثل تقويضا صريحا للتحالف الذى يجمع بين واشنطن وسيول، وذلك بعدما توترت العلاقات بين البلدين فى الأشهر الماضية على خلفية العديد من القرارات والقضايا الخلافية، سواء على المستوى التجارى، أو حتى فيما يتعلق بكيفية العلاقة مع كوريا الشمالية فى ظل المستجدات الأخيرة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة