أطفال فى عمر الزهور لم يلبثوا أن يقضوا طفولتهم بين العرائس والألعاب، وحكمت عليهم الظروف أن يقضوا الباقى من أعمارهم بين طرقات المحاكم.
فتيات لم تتجاوز أعمارهن الـ15 و16 عاما، وقفن أمام مكتب التسويات بمحكمة الأسرة وأمام القضاة يتوسلن حقوق أبنائهن الأطفال لا حقوقهن الخاصة، يبحثن عن حياة كريمة لصغارهن بعد أن تركهم آباؤهم أو أنكر نسبهم آباء آخرون.
كانت محكمة الأسرة قد سجلت هذا العام ما يقرب من 635 دعوى إثبات نسب وزواج وطلاق بسبب الزواج العرفى.
وتعتبر محافظة أسيوط واحدة من المحافظات التى تعانى نسبة عالية من الجهل والفقر، فطبقا لآخر إحصائية تمثل نسبة الأمية بالمحافظة %38 فيما تحتل معظم قرى المحافظة المركز الأول فى الفقر، وحينما يجتمع الفقر والجهل، فهما كفيلان وحدهما فى أن يتسببا فى مأساة حقيقية.
قاصرات
زهور لم تتفتح دفعن وحدهن ثمن الجهل الذى اغتال براءتهن ودفعن ثمن فقرهن الذى كان سببا فى التغرير بهن وخديعتهن.
أسماء قدرها وحده كان سببا فى أن تولد لأسرة فقيرة، لم تعرف طريقها للمدارس ولا للتعليم، يعيشون فى إحدى قرى أسيوط، لم تدرك «أسماء.س.ع» أنها ستكون واحدة ضمن أسرة مكونة من 10 أفراد هى الفتاة السادسة بها، وغيرها 7 أخريات، فحلم والدها بأن ينجب ذكرا كان وحده سببا كافيا فى أن يزداد فقر الأسرة، فأنجب 7 فتيات ثم رزق بعدهن بالولد.
وبعد أن فاق من غيبوبته فى الإنجاب، اكتشف أن لديه 8 أبناء منهم 7 فتيات أكبرهن 18 عاما، فمن أين ينفق عليهم جميعا، فكان الاقتراح من الأهل والأقارب أن يقم بتزويجهن، وبهذه الحالة سيتخلص من حملهن ومن نفقاتهن، ولم يختلف مع المتقدمين لخطبتهن على أمر، إن كن سيتزوجن بعقد عرفى لعدم بلوغهن السن القانونى، أو إن كن سيتزوجن بدون عقد نهائى، ويكتفى والدهن بالإشهار وكان زواج الإشهار بدون عقد من نصيب أسماء التى قررت الهروب من الفقر والجوع إلى منزل العريس والتى كان وقتها عمرها لا يتعدى الـ15 عاما.
محكمة الأسرة
حملت أسماء عقب زواجها مباشرة فى الوقت الذى غاب فيه زوجها عن القرية للعمل بالقاهرة، وعاشت هى فى حجرة بمنزل والد زوجها لا تختلف كثيرا عن تلك الحجرة التى كانت تعيش فيها بمنزلها، إلا أن هذه المرة تنام بمفردها على السرير، وبداخل أحشائها طفلين، نزل خبر حملها بتوأم على زوجها كالصاعقة، وبدلا من أن يقف بجوارها، قال لها: إنه لا يستطيع تحمل نفقات طفلين وهو يبدأ حياته، وعليها أن تحمل شنطة ملابسها التى أتت بها وأن تذهب لتقيم بمنزل والدها، وعليه أن يتحمل نفقاتها، ونفس رد الفعل فوجئت به أسماء من أهل زوجها بعد استنكارهم لحملها بتوأم بحجة المصاريف.
عادت أسماء إلى منزل والدها تحمل فى أحشائها طفلين لا تعلم مصيرهما، ومكثت فى منزل والدها حتى أنجبت، لكنه رفض تحملها وتوأمها فحملتهما على كتفها وتجولت بالشوارع، لكنها لم تجد فرصة واحدة للعمل لجهلها وضعف صحتها وحملها لطفلين، فعادت مرة أخرى واستنجدت بأهل زوجها الذين رفضوا الاعتراف بالطفلين، وأمام محكمة الأسرة وفى الدعوى رقم 178 لسنة 2017 وقفت أسماء تحكى قصتها وتختصم زوجها الذى أنكر نسب طفليه وأبيها الذى لم يضمن حقها وظلمها ثم رفض عودتها للمنزل اعترافا بالخطأ.
ليس وحده الفقر ما يصنع هذه المأساة التى تعيشها الفتيات القصر، فالتمسك بالعادات القديمة والمتوارثة عن جهل كفيلة بأن تتسبب فى ضياع مستقبل الكثيرين، فمنذ أن كانت «أميرة.ع.ب» فى عمر العام، نذرها والدها للزواج بابن عمها، فطبقا لتقاليد إحدى قرى مركز البدارى بأسيوط أن تتزوج الفتاة من ابن عمها مهما كان فرق العمر أو فرق التعليم، ويحق له الزواج منها حتى بدون شبكة أو مهر أو عقد زواج، فابن العم دائما مقدم على أى عريس آخر.
وبعد أن بلغت أميرة 16 عاما، فقرر ابن عمها أن يشهر زواجه منها، ونظرا لأن «الحكاية فى بيتها» فهى ابنة عمه، فليست هناك ضرورة إلى كتابة عقد عرفى واكتفوا فقط بأن يشهر زواجه منها أمام أهل القرية، وهذا وحده كافيا فى العرف والتقاليد لديهم لإثبات الزواج، ولكن ما لا تعلمه أميرة هو أن القدر يخفى عليها ما لا تتوقعه، فبعد الزواج بعدة أشهر، سافر ابن عمها للعمل فى إحدى الدول الأجنبية عن طريق الهجرة غير الشرعية، وبعد عام من سفره، أرسل إلى والده يخبره بأنه تزوج من فتاه إيطالية، ولا يستطيع العودة لإكمال حياته مع ابنة عمه، وأنه لا يمكن له العودة قبل بضع سنوات.
توسلت إليه أميرة بأنها ستنتظره ولكنه أكد أن زوجته الأجنبية ترفض أن تكون أى زوجة أخرى فى عصمته، عادت أميرة مكبلة التفكير إلى منزل والدها، فلم يمض على زواجها سوى عدة أشهر، وقبل أن تضع خطتها فى استكمال تعليمها واستقلالها، فوجئت بأن زوجها لم يكتب عقدا رسميا بالزواج، وحتى تحصل على قسيمة طلاق، لا بد من وجود عقد زواج شرعى وهى لم تبلغ الـ17 عاما، لم ينته الأمر بالخلاف بين العائلتين بل امتد إلى الدم والثأر والخلافات، ووقفت أميرة أمام مكتب التسويات فى القضية رقم 468 لسنة 2017 تطالب بحقها فى الطلاق والعقد الشرعى وحقوقها التى أهدرت بدون وجه حق.
ومن جانبها، قالت منى أحمد المحامية لدى محكمة الأسرة وقضايا إثبات النسب: إن أغلب قضايا القاصرات أمام محكمة الأسرة تكون بسبب جهل الوالدين والولى بحقوق نجلته، ففى معظم قرى مراكز أسيوط خاصة تلك التى تقع تحت سفوح الجبال والقرى المتطرفة بالمحافظة تنتشر ثقافة زواج الفتاة القاصر، خاصة حينما تتعدى الفتاة عمر الـ15 عاما يعتبرون مكوثها فى المنزل بعد هذا العمر دخولا فى عمر العوانس بالإضافة إلى عدم اهتمامهم بتعليم الفتاة.
وأشارت إلى أنه على الرغم من انتشار ثقافة التعليم ومحو الأمية، فإن الزواج العرفى فى القرى للقصر يزداد عاما تلو الآخر، فأصبح خوف أفراد الأسر على بناتهم من الإنترنت والانحلال الأخلاقى، خاصة فى القرى، يفوق اهتامهم بأن تصل الفتاة إلى سن العنوسة.
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة