لزم الدكتور طه حسين، وزير المعارف منزله، وأملى على سكرتيره استقالة موجهة إلى رئيس الوزراء مصطفى النحاس باشا، يوم 1 أكتوبر، مثل هذا اليوم، 1951، حسبما يؤكد الدكتور محمد حسن الزيات فى كتابه «ما بعد الأيام».
كان «الزيات» وزيرا لخارجية مصر أثناء حرب أكتوبر 1973، وزوجا لابنة طه حسين، ويجمع فى كتابه ذكريات «عميد الأدب العربى»، بعضها كان شاهدا عليها، وأخرى ينقلها عن «العميد»..يذكر فى مقدمته: «رأيت طه حسين لأول مرة فى صيف 1934، وآخر مرة فى خريف 1973، وبين المرتين تسعة وثلاثون عاما، راقبت فيها كفاحه الطويل الذى حاولت أن أسجل صورا منه.. تسعة وثلاثون عاما، رأيته يناضل طوالها لغايتين، لا يرضى حتى يصل إليهما معه كل الناس.. الأولى هى الحرية، وهى عنده أساس الكرامة والمسؤولية للفرد وللأمة.. والثانية هى العلم، وهو عنده أساس النهضة فى الثقافة والسياسة والاجتماع والاقتصاد».
تولى «حسين» وزارة المعارف فى حكومة «النحاس باشا»16 يناير 1950، وفى 1 أكتوبر 1951 قرر الاستقالة انتصارًا لغاية العلم.. يروى «الزيات» القصة من أولها، قائلا: «فى كلية الآداب يقول طالب فى قسم التاريخ لزميل له: أستاذنا شفيق غربال» وكيل وزارة المعارف» ألقى أمس محاضرة مهمة عن كتاب «الحضارة العربية بأسبانيا» تأليف «ليفى بروفنسال».. المحاضرة كانت ضمن سلسلة اسمها «حديث الكتب الجديدة»، المقصود منها تعريف المشتغلين بالتعليم بما يظهر من الكتب المهمة، وشفيق غربال انتهز مناسبة سفر الوزير طه حسين إلى مدريد لافتتاح المعهد المصرى هناك، فاختار هذا الكتاب ليحاضر عنه، وتعرض الكتاب لمسائل مهمة منها مسألة تأثير فتح العرب لأسبانيا على حضارة البحر الأبيض المتوسط.. واستشهد بعبارات للكاتب الأسبانى «كلوديو سانشير البورنز» الذى كان مديرا لجامعة مدريد، ثم وزيرا لخارجية أسبانيا، قال فيها: «إن للأسبانى أن يفتخر بما لأسبانيا الإسلامية من تأثير على حضارة أوروبا الغربية، لأن أسبانيا الإسلامية كانت من أهم أسباب نهضة أوروبا الحديثة».. ويقول زميل الطالب: لاشك أن مثل هذا الحديث العلمى خير دعاية لنا نحن العرب.. يقول طالب آخر: سمعت أن طه حسين يعمل لإنشاء معهد مصرى فى الجزائر أيضًا.. يرد الأول: سمعت أن هناك وزراء حاليين ينتقدون فتح المعاهد الثقافية المصرية فى خارج البلاد».
فى 30 سبتمبر 1951 اجتمع مجلس الوزراء، وناقش مسألة إنشاء معهد مصرى فى الجزائر، لكن وزير الخارجية محمد صلاح الدين باشا هاجم الفكرة، فرد«حسين» بالاستقالة، وأملا نصها على سكرتيره، وعبرت عن عمق رؤيته الثقافية والسياسية والقيمية..قال فى استقالته: «حضرة صاحب المقام الرفيع رئيس مجلس الوزراء: «أتشرف بأن أرسل إلى مقامكم الرفيع استقالتى من الوزارة بعد الدرس القيم الذى سمعته، أمس، من أحد الزملاء الذى علمنى التواضع وأقنعنى بأنى لا أصلح للوزارة، لأنى أحسن القشور من إنشاء المعاهد التى لا تغنى، ولست أرى بأسا من أن يأخذ مجلس الوزراء برأى الزميل الكريم فيعدل عن إنشاء معهد الجزائر، ويلغى معهد مدريد وكرسى محمد على بمركز البحر الأبيض المتوسط بمدينة نيس، وكرسى اللغة العربية بجامعة أثينا، فكل هذه قشور لا تحارب الاستعمار، ولا تحقق استقلال الأمم العربية.
عزيزى، علىٍ أن أشق على مقامكم الرفيع بهذه الاستقالة فى وقت أنتم أحوج ما تكونون فيه إلى التفرغ لما تعنى به البلاد كلها من جلائل الأعمال، ولكن من تواضع لله رفعه، وصدق الشاعر حين قال: «ومن جهلت نفسه قدرها/ رأى غيره فيه مالا يرى»، وقد كنت أجهل قدر نفسى إلى أمس، فقد عرفته الآن، ولمقامكم الرفيع أخلص تحياتى وأصدق مودتى وأمتن وفائى.. طه حسين .. أول أكتوبر 1951».
رفض «النحاس باشا» الاستقالة، وانعقد مجلس الوزراء، ووفقا للزيات، فإن طه حسين تحدث مع النحاس قبل الاجتماع.. قال: «فيما يخص معهد الجزائر، الأخوة أهل الجزائر يرحبون به، بل يطالبون به، وكنت أتحدث مع السفير الفرنسى فى مصر فرحب به هو شخصيا، وكتب لحكومته التى أخذت تبعث بأسئلة واستيضاحات لا معنى لها، ولا سبب إلا الرغبة فى التسويف ثم الرفض».. يرد النحاس: «طبعا فرنسا تعتبر الجزائر جزءًا منها، واللغة الفرنسية هى لغة المستوطنين الفرنسيين الذين يعتبرون أنفسهم أصحاب البلاد، وإنشاء مصر لمعهد للحضارة الإسلامية والعربية فى الجزائر معناه مقاومة هذا الاتجاه الاستعمارى، وهذا لن تسمح به باريس..لن تسمح به حتى يضطرها الجزائريون وتضطرها مصر، ويضطرها العرب جميعا إلى ذلك».
يضيف حسين: «وزارة المعارف كانت تفكر فى التقدم بمشروع إنشاء مدارس مصرية ثانوية فى شمال أفريقيا وغيرها على مثال «الليسيه» التى تنشئها فرنسا خارج بلادها، ولو توفرت لنا الإمكانات لاستطعنا أن نفرض إنشاء هذه المدارس فى البلاد العربية الواقعة تحت الاستعمار، وذلك بتهديدنا للحكومات الاستعمارية بإغلاق مدارسها عندنا إذا هى لم توافق على إنشاء مدارسنا فى الأراضى العربية التى تحتلها».. يرد النحاس: «طبعًا هذه الأفكار واردة فى كتاب «مستقبل الثقافة».. والآن ندخل الجلسة وسترى أن أحدًا من إخواننا لن يعارض أراءك».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة