فرحت والدة الكاتب، المؤرخ، المفكر، محمد عودة بقرار ابنها بالعودة إلى «الجذور» والبدء من حيث نشأ فى قرية «جهينة» مركز فاقوس محافظة الشرقية للعمل بالمحاماة، حسبما يتذكر سنوات تكوينه فى مجلة «الهلال- مايو 1990».
امتدت فرحة الأم إلى الأب.. يتذكر عودة: «أصبح الأب مزهوا لأن فى البيت أستاذ، ويقرع الناس الباب فى الصباح أو المساء لاستشارة قانونية أوحضور تحقيق أو التوكيل فى قضية.. طبعًا بلا أتعاب، وقبل كل شىء دراسة قضاياه ومشاكل شيخ البلد..استمر «عودة» ثلاث سنوات فى العمل محاميا، لكنه وفى رحلة البحث عن ذاته يعترف: «تمنيت أن أحذفها تماما من سجل حياتى، وأفلحت بعد عناء كبير أن أدفع بها إلى أعمق أغوار السرداب المظلم المعتم، حيث يختزن الإنسان كل مرارات الفشل وعذابات وسقطات وسوءات حياته عامة».
تبقى «محطة المحاماة» فى حياة «عودة» هى الفاصل بين ما كان وما سيكون فى رحلة هذا الإنسان النادر فى تاريخنا، المولود فى «جهينة» يوم 10 يوليو عام 1920، والمتوفى فى القاهرة يوم 18 أكتوبر- مثل هذا اليوم 2006«بعد أن قضى شهره الأخير فى العناية المركزة بمستشفى «قصر العينى».. وفى خلال هذا الشهر كان تلاميذه وأصدقاؤه ومريدوه يتوقعون خبر موته بين لحظة وأخرى، لكنهم فى نفس الوقت يمنون أنفسهم بمعجزة ربانية تبقيه كى يواصل شحن بطاريات الأمل عندهم كما تعودوا.. هذا الأمل الذى يستمده هو من «إيمانه المتفائل بمصر التى لا تضيع أبدا رغم الكوارث والزلازل والانكسارات» بوصف صديقه الكاتب الصحفى يوسف الشريف فى كتابه «صعاليك الزمن الجميل».
يعيد صديقه الكاتب والمترجم محمد الخولى سبب طاقة عودة الهائلة فى التفاؤل إلى «استقراء عودة الدقيق ووعيه العميق بحركة تاريخ أمة العرب ودنيا الإسلام وحركات التحرر فى العالم الثالث».. يضيف «الخولى» فى كتابه «كتب فى حياتهم»: «يؤمن عودة بمقولة الشاعر التركى الكبير ناظم حكمت أن «سيكون غدنا أفضل من يومنا، وأن أروع الأعمال لم ننجزها بعد».
أثمر وعيه بحركة التاريخ عن انحيازه الفكرى والسياسى إلى ثورة 23 يوليو1952 وقائدها جمال عبد الناصر، ومؤلفات رائدة تنقب عن التأصيل التاريخى لهذه الثورة، وتدافع عنها فى مواجهة حملات الهجوم عليها بعد رحيل قائدها فى 28 سبتمبر 1970..من هذه المؤلفات «أحمد عرابى والثورة العرابية..7 باشوات يحكمون مصر.. ليبراليون وشموليون.. ميلاد ثورة.. فاروق بداية ونهاية.. الصين الشعبية.. رحلة فى قلب نهرو.. قصة الثورة اليمنية.. قصة مصر والسوفيت.. الوعى المفقود «ردا على توفيق الحكيم فى كتابه «عودة الوعى».. الباشا والثورة.. قصة الحزبية فى مصر.. اللورد كرومر فى مصر» وغيرها من المؤلفات الأخرى.
كتب «عودة» هذه المؤلفات بعقله وقلبه.. تصف الكاتبة عايدة الشرف هذه الحالة فى كتابها «شاهدة ربع قرن» قائلة: «لايختلف ظاهرها عن باطنها، فهو يحمل ضميرا لا تستطيع أعتى موجات المناصب والإغراءات اختراقه.. لذلك يعمل له رجال السياسة ألف حساب لرأيه الصريح دوما فى توجهاتهم ومواقفهم أوتراجعاتهم على البعد ومن دون الاقتراب منهم».. تضيف: «شخصية لها صفات تشبه صفات الضمير، قد لاتظهر على السطح أحيانا، وإنما تختفى فى أعماق وتتحرك فى مواجهة كل التصرفات الخاطئة والمعوجة على السطح».
كان عبقريا فى الجمع بين «حب الحياة» و«أمانة الكلمة»، ولهذا عاش «مغناطيسا» جاذبا لكل من حوله، مؤثرا فيهم بعمق. يؤكد محمد الخولى: «كان يرى دوما أن مكانه هو الأسواق والساحات حيث حركة الناس وإيقاع الشارع».. يذكره محمود السعدنى فى كتابه «مسافر على الرصيف»: «محمد عودة واحد من المثقفين المصريين الذين سبحوا فى علوم الغرب، وأغلب قراءاته باللغتين الإنجليزية والفرنسية، ومع ذلك لم يبحر بعيدا عن شواطئ مصر، ولم تنقطع خيوطه بقاع المجتمع، فى الحارة وفى القرية، بالرغم من أنه كان يعيش فى وسط القاهرة وفى أرقى أحيائها، وينزل فى بنسيوناتها وفنادقها الصغيرة».
تقول عايدة الشريف: «قد لاتشدك إليك هيئته، ولكن سحر شخصيته يسرى إليك، فلا تستطيع الفكاك منه مهما كنت بعيدا عنه.. كان ملتقى الخيوط الثقافية والسياسية والفنية والاجتماعية فى تشابكها وافتراقها وتمزقها وايجابياتها.. كان همزة الوصل بين مجالس الأفاضل والصعاليك على السواء.. بالمعنى الجيد لهذه الكلمة، وكان محط آذانهم وأبصارهم، بل كان هو البوصلة التى تحرك الحوار يمينا ويسارا.. وإذا كانت لكل كاتب سمات مميزة، فإن كل السمات المتناقضة بين الأبيض والأسود هى ميزات عودة، وتستطيع أن تقول عنه وأنت مرتاح البال، إنه كان إيجابيا وسلبيا فى آن واحد، ثائرا وفوضويا، متواضعا ومتكبرا، كريما وبخيلا، لاه وجادا، علمانيا وغيبيا، إلى جانب كونه مخلصا وغادرا حسب الظروف».
توضح: «لا تدل هذه الأوصاف جميعها على تناقض..بل عن انسجام وتكامل فى شخصيته، ذلك أن أيا منها تكتب مصداقيتها عندما تتبدى فى إطارها الزمنى وظروفها الموضوعية، لأنها تجسد الحقيقة بعينها والمقنعة فى حينها.. لذلك يقولون: يا حظ من جاء عودة معه، وياويل من كان عودة ضده».