- والدة القتيل: منهم لله قتلوا فرحتنا ونفسى أقطعهم بأسنانى
فتح الطفل الصغير عينيه على الدنيا ليجد نفسه فى أسرة بسيطة الحال، فالأب عامل بـ«اليومية» والأم ربة منزل، فلا مكان للرفاهية بل يسعون لتوفير متطلبات الحياة اليومية فقط، وبالرغم من حداثة سن الطفل بعد مرور عدة سنوات، إلا أنه ارتدى ثوب الرجولة مبكرًا، رأى والده ينغمس فى العمل الشاق على مدار اليوم ليوفر لهم متطلباتهم، فقرر الطفل الذى لم يتخط عمره الخامسة عشر عامًا دخول معترك الحياة مبكرًا.
«كتفى فى كتف أبويا»، شعار رفعه «سيف»، الذى يقطن برفقة أسرته فى منزل بسيط بمنطقة الخانكة التابعة لمحافظة القليوبية، حيث سارع الطفل لمواطن يمتلك ‹«توك توك» واتفق معه على العمل عليه مقابل أجر يومى، ينفق جزءا منه على دراسته، حيث يدرس فى الصف الثالث الإعدادى، وما يتبقى يدفع به لوالده لمساعدته فى توفير شؤون الحياة.
«سيف كان راجل من يومه»، هكذا تتحدث الأم عن ابنها، الذى تحمل «الشقى بدرى بدرى» بحد وصفها، مضيفة، كان «سيف» أكثر من يعمل بالمنزل، ويرضى بأقل شىء، قنوع زاهد، لا يعرف طريق المقاهى ولا ينفق «قرش» فى ترفيه، وإنما مشغول طول الوقت بمساعدة والده المريض، الذى يعمل «فواعلى».
فى الوقت الذى كان أصدقاء «سيف» يلعبون فى الشوارع، أو يجلسون على المقاهى، ومشغولين بتصفح السوشيال ميديا، كان «سيف» يجوب الشوارع بمركبة «التوك توك» بحثًا عن الرزق الحلال، بحد حديث والدته لـ«اليوم السابع»، مضيفة: «كنت أشفق عليه، فقد كان يخرج لساعات طويلة من أجل جمع أكبر قدر من المال لمساعدتنا، حتى أنه لم يفكر يشترى لنفسه هاتف محمول مثل باقى أصدقائه، فكان دائمًا مشغول بإرضاء شقيقه، وشراء متطلباتهم.
الحاجة للمال كانت تحاصر حياتنا، وكان «سيف» يلمح الحزن فى عيونى، فيحدثنى عن تحويل الألم لأمل مستقبلًا، ويجلس معى يتجاذب أطراف الحديث، فيقول لى: «أوعى تزعلى يا ماما، الدنيا هتبقى زى الفل، وإن شاء الله لما أكبر وأطلع بطاقة، هاسافر على طول، هاشتغل واجيب لك فلوس كتير، طيب أقولك على حاجة، الفلوس هتزيد مننا وهاطلعك الحج»، فقد كان يخطف قلبى بكلامه، بالرغم من صغر سنه لكنه كان متزنًا هادئ الطباع، هكذا تحدثت الأم عن فلذة كبدها.
الأم عرفت معنى السعادة، وبدأ الفرح يتسلل لقلبها، لا سيما فى وجود طفل سيكون له شأن فى المستقبل، لكن أحلام الأم تبخرت واصطدمت بطمع وجشع خارجين عن القانون، قرروا سرقة «التوك توك» الذى يعمل عليه «سيف»، فاستدرجوه لمكان نائ، بزعم توصيلهم، وما أن توارى بعيدًا عن أعين الناس قتلوه.
تقول الأم، حل موعد عودة «سيف» فى العاشرة مساءً لكنه لم يعود، انتظرناه كثيرًا حتى بدأ القلق يتسرب لقلوبنا، ذهب والده وأصدقاؤه يبحثون عنه فى كل مكان، حتى عثروا عليه قبل الفجر مقتولًا، فكان الخبر الأسوأ فى حياتى، فمكثت 6 أيام فى حالة إغماء، ولم أدر بنفسى، وعندما بدأت فى الإفاقة اسودت الدنيا فى عينى، فقد ذهب «سيف» ومعه الفرحة والأمل، مات من كان يحنو علينا، رحل صاحب السعادة والضحكة والوجوه البشوش، لا شىء فى الدنيا يعوضنى غيابه، ولا أحد يملأ فراغه، أشتاق لحديثه العذب، ولكلماته الهادئة الجميلة، ولكل شىء فيه، أنتظر قرار من المولى عز وجل، حتى أرحل هناك وأذهب لألقى ابنى فى الجنة، حيث الراحة الأبدية، فلا طمع ولا جشع، ولا حقد بين الناس، أنتظر هذا الموعد حتى ألقاه هناك.
أعرف أنه لن يعوضنى شىء عن فراق ابنى، الأم تكمل حديثها، لكنى لدى أمل فى رؤية القتلة على حبل المشنقة، فقد حرمونى من فلذة كبدى، قتلوه بدماء باردة، عندما تمسك بـ«التوك توك»، مصدر رزق، كانوا هم الأضعف لأنهم يملكون سلاحًا، وهو الأقوى لأنه يملك الحق، لكنهم غدروا به، واستحلوا دماءه، طمعًا فى المال، ولن يشفى غليلى سوى إعدامهم، أو «تقطيعهم بأسنانى» حتى تهدأ نيران القلوب بعض الشىء.
وبكلمات ممزوجة بالآسى والحزن، روى والد «سيف.ر» جانبًا آخر من القصة المأساوية التى تعاطف معها الجميع، وتفاعل معها رواد السوشيال ميديا، ملقبين الصغير بـ«شهيد لقمة العيش»، حيث سرد الأب أصعب لحظات فى عمره عندما شاهد فلذة كبده غارقًا فى دمائه.
ويقول الأب، حوالى 4 ساعات من البحث عن «سيف» لدى اختفائه دون فائدة، حتى أكد لى أحد الجيران أنه شاهد جثة ملقاة بمكان نائ مظلم، وبدون تفكير توجهت للمكان فورًا برفقة صديق ابنى، وطوال الرحلة للمكان أتمنى أنها لا تكون لابنى، وقبل الوصول للجثة بعدة أمتار سقطت منى الدراجة النارية، بعد شعور بأن الجثة لـ«سيف»، وبالفعل توجه صديقه إليها وتأكد منها، فأسرعت خلفه، لأجد ابنى مقتولًا وغارقًا فى دمائه، فى مشهد «ربنا ما يكتبه على حد»، فلم أتمالك نفسى، دخلت فى وصلة بكاء على فلذة كبدى، فلم يكن «سيف» ابنى فقط، بل كان «أخويا وصاحبى وكل حاجة ليا فى الدنيا»، وتألمت لمشهد قتله، فوجدت جسده به عدة طعنات فى أماكن متفرقة من الجسد، بينها طعنات وذبح فى الرقبة، فخلعت قميصى ووضعته على وجهه، حفاظًا على حُرمة الوفاة، واتصلت بزوجتى وطلبت منها التوجه لأشقائى لحضورهم فورًا، وبعدها حررنا محضرًا بقسم الشرطة.
«سيف مات بسبب رجولته»، الأب يكمل حديثه، قائلًا: «الجناة الثلاثة وبرفقتهم سيدة استدرجوا ابنى لمكان نائ بزعم توصيلهم إليه، وما أن توارى بعيدًا عن أعين الناس حتى طلبوا منه التخلى عن مركبة «التوك توك» التى يعمل عليها باليومية، لكنه تمسك بمصدر رزقه، ورفض إعطاءهم مفاتيح «التوك توك»، فقرروا التخلص منه بدون رحمة أو شفقة، فلم يرحموا صغر سنه، وإنما مزقوا جسده، وسط نظرات منه بالاستحقار لهم، حتى فاضت روحه الطاهرة لربها تعلن البشرية والقسوة.
«البساطة والرضا وجبر الخواطر» كانوا عنوان حياة «سيف»، الأب يكمل حديثه من داخل غرفة ابنه بدموع حبيسة فى العيون، فلم يكن ابنى لديه سوى هذه الغرفة البسيطة التى لا يوجد بها أى شىء سوى سرير بسيط و«مروحة».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة