كان جمال عبد الناصر يستعد للسفر إلى الإسكندرية لإلقاء خطاب فى ميدان المنشية يوم 26 أكتوبر- مثل هذا اليوم -1954، وكانت جماعة الإخوان تخطط لاغتياله أثناء خطابه.
تتذكر السيدة تحية حرم الزعيم الراحل فى مذكراتها «ذكريات معه» لحظات خروج عبدالناصر من البيت متوجها إلى الإسكندرية يوم 26 أكتوبر 1954: «كان يضع دائما فى جيبه مصحفا صغيرا فى غلاف من المعدن الأبيض.. لم يجده وقت خروجه وكان مستعجلا إذ سيسافر بالقطار، فأخذت أبحث عن المصحف وأنا مسرعة ولم أجده.. فأحضرت مصحفا آخر بغلاف من الكرتون فأخذه ووضعه فى جيبه، وعند خروجه وجدت المصحف ذا الغلاف المعدن الذى اعتاد أن يخرج به، فجريت مسرعة وأعطيته له، وكان بالقرب من الباب فأخذه ووضعه فى جيبه وخرج بالمصحفين..وكان حادث المنشية بالإسكندرية أثناء إلقائه الخطاب وإطلاق الرصاصات الثمانى عليه ونجاته.. فظل يخرج بالمصحفين، وعند رجوعه إلى البيت يضعهما بنفسه فى مكان لا يتغير فى الحجرة، وفعل نفس الشىء يوم 28 سبتمبر 1970«يوم وفاته».
احتشد ميدان المنشية بعشرات الآلاف..تصف «الأخبار» فى عددها 27 أكتوبر 1954 ما جرى قائلة: «وقف جمال عبدالناصرعلى المنصة العالية يخطب.. لم يكن قد مضى على بداية كلمته أكثر من ثلاثة دقائق. وكان يتحدث عن كفاح الماضى..هنا دوّت ثمانى رصاصات.. موجهة إلى جمال عبد الناصر وصاح بعض الناس: امسكوه.. امسك اللى ضرب.. امسكوه لكن جمال عبدالناصر لم يتوقف عن كلامه.. صاح فى الجماهير الغاضبة الواجفة التى تفرق بعضها على صوت الرصاص قائلًا: فليبق كل فى مكانه، أيها الرجال، فليبق كل فى مكانه، أيها الأحرار فليبق كل فى مكانه.. أنا دمى فداء لكم.. حياتى لكم، دمى فداء مصر».. تضيف الأخبار: «تطلع الناس إلى جمال عبدالناصر.. يطلبون أن يتوقف ويستريح..وأحضروا له كوب ماء فرفض أن يشربها.. واستمر يتكلم.. هتفت الجماهير: «الله معك ياجمال».. فعاد مرة أخرى إلى الميكرفون.. وقال: دافعوا عن بلادكم.احملوا الرسالة بعدى. احملوا الأمانة من أجل عزتكم ومن أجل حريتكم ومن أجل كرامتكم».
كشفت «الأخبار» أن المتهم هو محمود عبداللطيف محمد «35 عامًا»، ويعمل سباكًا بإمبابة بالقاهرة، وأطلق الرصاص من بعد 20 مترًا من المنصة، وهجم عليه العسكرى «حسن الحالاتى» من بوليس باب شرقى. وكان يبعد عن المتهم بأربعة أمتار..وقال فى التحقيق إنه وصل الإسكندرية أمس الأول لحضورالاحتفال. وأضافت «الأخبار» أن عبداللطيف ينتمى إلى الإخوان من 1938وأطلق الرصاص فى اللحظة التى انتهز فيها هتاف الجماهير عند بدء خطاب الرئيس، وكان الوزير السودانى الميرغنى حمزة يجلس على يسار الرئيس فأصيب نتيجة تطاير شظايا زجاج مصباح كهربائى، وأصيب أحمد بدر سكرتير هيئة التحرير فى الإسكندرية.
فى شهادات «الإخوان» هناك من ينكر الجريمة فى محاولة لغسل تاريخها الإرهابى، وهناك من يؤكدها، وهناك من يتبنى رأيا متهافتا بأنها تمت دون علم القيادات، ومن هؤلاء يوسف القرضاوى..يذكر فى مذكراته «ابن القرية والكتاب» «أن ھنداوى دوير» مخططها منفردا.. يقول: «أعرف نوع تفكيره، لقيته مرات، رجل ذكى، مغرور، متحمس عجول، رجل مخلص للدعوة لا يمكن أن يتھم بخيانة أوعمالة للخصوم».. ويؤكد الوصف الأخير فساد دعاية «الإخوان» بأن عبدالناصر هو من دبرها، فكيف لرجل يحمل وصف «لايمكن أن يتهم بخيانة أوعمالة للخصوم» أن يتم تجنيده للتخطيط لهذه المحاولة؟.
يواصل «القرضاوى»: «دوير رأى أن ھذا النظام يعتمد فى بقائه على شخص، جمال عبدالناصر، وكيف يذھب أو يسقط عبد الناصر؟ إنه أمر فى غاية السھولة: رصاصات ماھر فى صدره، فيخر صريعا، ومعه نظامه أيضا».. يضيف أن «دوير» وجد من ينفذ خطته فى شعبته نفسھا، إنه الشاب الرامى الحاذق النشانجى محمود عبداللطيف، وأمھله ثلاثة أيام ليتخذ قراره، وفى ١٩ أكتوبر، اليوم الذى وقع فيه عبدالناصر معاھدة الجلاء مع بريطانيا، قبل عبداللطيف المھمة، وتنفيذها فى نفس اليوم، لكن الظروف لم تساعد، فتأجل التنفيذ.. يكشف «القرضاوى» تشجيعه للإرهاب، قائلا: «من يدرى ربما لونجحت خطته لأصبح من أبطالها» الإخوان، وعد منقذا للدعوة».. فأى دعوة تلك؟.
يذكر أحمد عادل كمال فى مذكراته «النقط فوق الحروف»: «كان الإخوان يهددون ويتوعدون، ثم اندلعت المحنة بحادث ميدان المنشية».. يضيف: «كان الإخوان قد أعلنوا أنهم سيعلمون من تحت الأرض، واختفى الأستاذ المرشد، وكانت هناك جبهة أخرى ذات عداء لم توافق على ذلك، واتخذت وضعا آخر، وصعدت الموقف حتى عينت فيما بينها مكتب إرشاد عام آخر».. تفتح هذه الشهادة الباب لأسئلة..ماذا يعنى «اختفاء المرشد» و«الإخوان يهددون ويتوعدون» و«الإخوان أعلنوا أنهم سيعملون تحت الأرض؟».
تبقى شهادة أحمد رائف الملقب بـ«مؤرخ الإخوان»، ومؤلف «البوابةالسوداء» و«سراديب الشيطان»، ويذكر فيه أن محاولة اغتيال عبدالناصر هى من تدبير نفسه.. لكنه وبعد سنوات طويلة وفى حوار له مع صلاح الدين حسين لجرية الدستور كشف: «أول من نبهنى إلى أن حادث المنشية ليس مفبركا هو حسن الهضيبى مرشد الجماعة عندما التقيت به فى السجن عام 1965، وحين تتبعت خيوط كل من له علاقة بهذه القصة، وصلت إلى أن الإخوان دبروا محاولة القتل، أما فكرة أنها تمثيلية فهذا مما يستهوى الإخوان حتى تظهرهم بمظهر المجنى عليهم والمغلوبين على أمرهم».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة