اتفاقات اقتصادية وعسكرية بين روسيا وفنزويلا، خلال الزيارة التى قام بها الرئيس الفنزويلى نيكولاس مادورو إلى موسكو، ربما تمثل فى ظاهرها امتدادا للتحدى الذى تفرضه موسكو على واشنطن، منذ بداية اندلاع الأزمة الفنزويلية، والتى دفعت إلى إعلان زعيم المعارضة خوان جوايدو، نفسه رئيسا مؤقتا للبلاد، لتدعمه دول المعسكر الغربى، هو ما اعتبرته دوائر صنع القرار فى واشنطن تهديدا صارخا لأمنها القومى، خاصة وأن كاراكاس تمثل عمقا استراتيجيا للولايات المتحدة، خاصة مع التلويح الأمريكى المتواتر بالتدخل فى فنزويلا عسكريا للإطاحة بالنظام القائم، وهو ما ينذر بمواجهة محتملة بين اثنين من أكبر القوى العسكرية فى العالم، وهو ما يمثل تكرارا للمشهد السورى، فى السنوات الماضية، فى ظل الغضب الأمريكى من الدور الروسى هناك.
السلاح الروسي أصبح الأقرب لمادورو
ولعل الموقف الروسى تجاه كاراكاس يبدو مختلفا إلى حد كبير، فى ظل اختلاف المعطيات الإقليمية فى منطقة أمريكا اللاتينية، عنه فى الشرق الأوسط، حيث كانت موسكو بحاجة إلى التدخل فى الأزمة السورية باعتبارها المدخل لعودة النفوذ الروسى فى منطقة الشرق الأوسط، ومزاحمة النفوذ الأمريكى، بالإضافة إلى حالة الامتعاض لدى القوى الرئيسية فى المنطقة جراء السياسات التى تبنتها الإدارة الأمريكية السابقة برئاسة باراك أوباما، وهو الأمر الذى دفع العديد من القوى الرئيسية إلى الترحيب بالتدخل الروسى، خاصة مع تقاعس الإدارة الأمريكية السابقة فى الحرب التى أطلقتها ضد تنظيم داعش الإرهابى، تحت إطار ما يسمى بالتحالف الدولى، بالإضافة إلى دعمها لوصول الجماعات الإرهابية إلى السلطة فى العديد من دول المنطقة فى أعقاب ما يسمى بـ"الربيع العربى"، وبالتالى كانت هناك حاجة ملحة لقوى دولية جديدة يمكنها القيام بدور بارز فى دحض التهديد الذى أصبح بمثابة كابوس يهدد كافة دول المنطقة.
أوضاع صعبة.. روسيا لا تحقق مكاسب من دعم مادورو
إلا أن الأمور فى أمريكا اللاتينية ربما لم تسير على نفس النهج، حيث تعد غالبية الدول بالمنطقة حلفاء أقوياء لواشنطن، وبالتالى لم يقبلوا بالوجود الروسى، بالإضافة إلى انهيار الاقتصاد الفنزويلى، مما دفع إلى تراجع إبرام صفقات تسليح جديدة بين موسكو وكاراكاس، فى الوقت الذى يتكلف فيه الوجود العسكرى الروسى فى كاراكاس مليارات طائلة، بالإضافة إلى عدم تحقيق منافع اقتصادية ملموسة من وراء دعم مادورو، فى ظل أوضاع اقتصادية تبدو صعبة فى روسيا، جراء استمرار العقوبات الغربية عليها، على خلفية قيام الحكومة الروسية بضم شبه جزيرة القرم إلى أراضيها فى عام 2014، وذلك فى أعقاب الإطاحة بالرئيس الأوكرانى الأسبق فيكتور يانكوفيتش.
مادورو وبوتين
وبحسب البيانات الصادرة عن شركة "روستك" الروسية المملوكة للدولة، فإنها قامت بتقليص عدد موظفيها الذين يقومون بتدريب الجنود الفنزويليين وتقديم استشارات بشأن صفقات السلاح إلى بضع عشرات، بعدما اقترب عدد موظفيها من الألف موظف فى الأشهر الماضية، فى إشارة صريحة إلى ما يمكننا تسميته بـ"التخلى" الروسى عن مادورو، موضحة أن النظام الحاكم فى فنزويلا لم يعد لديه الأموال للاستمرار في دفع فاتورة خدمات الشركة بالنسبة للعقود القديمة.
نجاح أمريكى.. واشنطن تنجح فى منع موسكو من تحديها
ويعد التراجع الروسى فى فنزويلا بمثابة نجاح أمريكى منقطع النظير، فى إجبار موسكو على الابتعاد عن تقديم الدعم لمادورو فى أشهر الأزمة الأولى، حيث كان تلويح إدارة ترامب بالحرب فى كاراكاس سببا رئيسيا لدفع موسكو إلى استعراض عضلاتها عبر إرسال مقاتلاتها إلى السواحل الفنزويلية، وهو ما ساهم فى استنزاف القدرات الروسية، والتى أصبحت إلى حد كبير مبعثرة بسبب اعتماد قوتها العسكرية للعودة إلى صدارة المشهد الدولى.
ترامب
يبدو أن موسكو اكتشفت أنها غير قادرة على مجاراة القدرات الأمريكية فى الانتشار العسكرى فى العديد من مناطق العالم، خاصة مع نشر قواتها العسكرية سواء فى سوريا منذ بداية التدخل الروسى فى عام 2015، وتارة أخرى فى أوروبا، على خلفية القرار الأمريكى بالانسحاب من معاهدة القوى النووية القصيرة والمتوسطة المدى، وبالتالى فكان القرار الروسى بزيادة الوجود العسكرى فى فنزويلا بمثابة ضغط إضافى على موسكو فى المرحلة الحالية.
تحد أم وساطة.. زيارة مادورو مناورة روسية أمريكية
وهنا يثور التساؤل حول ما إذا كانت زيارة مادورو لموسكو تمثل تحد جديد لواشنطن، أم أنها جزء من مناورة، ربما تحظى بمباركة الولايات المتحدة، لتحقيق تقدم ملموس فى سبيل إنهاء الأزمة، خاصة وأن الحديث الأمريكى أصبح أكثر هدوءا فى الأشهر الماضية، فى الوقت الذى يقوم فيه مسئولو الإدارة الأمريكية بجولات متواترة لدول أمريكا اللاتينية، ربما تحمل فى طياتها السعى نحو فتح المجال أمام التفاوض بين الرئيس الأمريكى ونظيره الفنزويلى فى المستقبل، على غرار ما حدث فى الأزمة الكورية الشمالية، والتى استهل فيها ترامب حقبته بحرب كلامية وتهديدات صريحة بالحرب، لتتخذ الأزمة بعد ذلك منحى جديد، أحرزت فيه واشنطن تقدما غير مسبوق إلى الحد الذى قام فيه ترامب بزيارة رمزية للأراضى الكورية الشمالية، على هامش جولته الآسيوية، بعدما قام بتخطى الحدود الكورية بصحبة زعيم بيونج يانج كيم جونج أون.
يبدو أن الحكومة الروسية تحاول القيام بدور أخر، بعيدا عن تحدى الهيمنة الأمريكية، من خلال تقديم نفسها كوسيط، فى ظل رغبة البيت الأبيض الواضحة فى عدم خوض معارك جديدة من شأنها تكليف الميزانية الأمريكية مليارات جديدة، بالإضافة إلى رؤية ترامب القائمة على تخفيف التواجد العسكرى الأمريكى فى العديد من مناطق العالم، وهو ما بدا واضحا فى القرارات الأمريكية الأخيرة، وأبرزها الإطاحة بمستشار الأمن القومى الأمريكى جون بولتون، والمعروف بكونه أكبر صقور الإدارة الأمريكية، فى ظل نهمه بفكرة الحرب ضد خصوم واشنطن التاريخيين.