على الرغم من التصريحات النارية، التى أطلقها الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، حول مخاطر التهديدات التى يمثلها تنامى تيارات الإسلام السياسى فى باريس، وتداعياتها، إلا أن الإجراءات التى تم اتخاذها ربما مازالت ضعيفة للغاية، خاصة مع تواتر الأحداث الدموية التى تشهدها المدن الفرنسية، فى الأعوام الأخيرة، والتى وصلت بعضها إلى حد المجازر، على غرار ما حدث فى العام الماضى، عندما استهدف متطرف فرنسى سوقا لعيد الميلاد بمدينة ستراسبورج، مما أودى بحياة 4 فرنسيين وإصابة العشرات، بالإضافة إلى أحداث أخرى، استهدفت رجال الشرطة، كان أخرها حادث الطعن الأخير، والذى أدى إلى مقتل رجل أمن، ليثير التساؤلات من جديد حول ماهية الإجراءات التى اتخذها ماكرون لاحتواء الخطر المتفاقم.
ولعل ما يمكننا تسميته بحالة الترهل الأمنى فى المدن الفرنسية، يمثل أحد الأسباب الرئيسية فى اندلاع احتجاجات "السترات الصفراء" التى شهدتها باريس فى الأشهر الماضية، خاصة مع تنامى ظاهرة الهجرة، وتسلل العناصر الخطرة إلى الأراضى الفرنسية، مما أدى إلى زيادة كبيرة فى معدلات الجريمة، وفى القلب منها جرائم الإرهاب، مما دفع إلى المطالب التى رفعها المتظاهرون بالخروج من الاتحاد الأوروبى، فى خطوة تمثل ثورة جديدة على سياسة الحدود المفتوحة، والتى تتبناها الأنظمة الفرنسية، وهو المطلب الذى يتماشى مع توجهات اليمين الفرنسى، والذى أعلن عن دعمه الصريح لتلك المطالب، فى مواجهة ماكرون وحكومته، ربما لحصد المزيد من الشعبية قبل الدخول فى المعتركات الانتخابية، وعلى رأسها انتخابات البرلمان الأوروبى الأخيرة، والتى حصد فيها اليمينيون أغلبية المقاعد.
الربيع العربى.. الغرب يجنى ثمار "خطايا" الماضى القريب
وترتبط حالة عدم الاستقرار الأمنى فى باريس بصورة كبيرة بالتطورات التى شهدتها منطقة الشرق الأوسط، إبان ما يسمى بـ"الربيع العربى"، فى ظل تنامى التيارات الإسلامية المتطرفة، وفى القلب منها تنظيم الإخوان الإرهابى، وهى التيارات التى نالت دعما كبيرا من قبل دول الغرب الليبرالى، وعلى رأسهم الولايات المتحدة خلال حقبة إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، ودول الاتحاد الأوروبى، لتفتح المجال أمامها ليس فقط للسيطرة على السلطة فى دول المنطقة، وإنما كذلك للقيام بدور فى دول العالم الأخرى، وهو ما بدا واضحا فى تصاعد العمليات الإرهابية التى استهدفت دول الغرب من الداخل خلال السنوات الماضية.
ماكرون
ولعل التقاعس الغربى، والذى كانت فرنسا جزءا منه، فى الحرب على تنظيم داعش على سبيل المثال، فى إطار ما يسمى بالتحالف الدولى، سببا رئيسيا فى تفاقم الخطر الإرهابى، فى ظل النجاح المنقطع النظير الذى حققه التنظيم فى استخدام التكنولوجيا الحديثة للتواصل مع المتعاطفين معه، والمتوافقين مع أفكاره من أبناء المجتمعات البعيدة، والذين قاموا بدورهم إما بتشكيل خلايا، مولتها الدول الداعمة لتلك التنظيمات، قامت بتنفيذ عمليات استهدفت أهدافا فى الداخل الغربى، أو عن طريق مجهود فردى من أشخاص، قاموا بعمليات متفرقة كأحداث إطلاق نار أو حوادث الطعن أو الدهس التى أصبحت بمثابة إحدى العلامات المميزة للحقبة الراهنة، خاصة فى أوروبا، لتجنى دول القارة العجوز "خطايا" سياساتهم فى السنوات الماضية.
رأس الأفعى.. الإخوان التهديد الحقيقى للمجتمع الفرنسى
ولكن تبقى تصريحات حزب الجمهوريون اليمينى فى فرنسا، حول إلقاء اللوم على جماعة الإخوان، بشكل مباشر فيما يتعلق بحادث الطعن الذى تعرض له أحد رجال الشرطة الفرنسية فى الأيام الماضية، أحد الأدلة الدامغة على الفجوة العميقة بين التيارات الحاكمة فى الغرب من جانب، والقوى الشعبوية الجديدة، والتى تمكنت بالفعل من الوصول إلى السلطة فى العديد من دول الغرب، خلال السنوات الماضية، حيث أنها تبرز إدراك تلك التيارات لما يدور فى عقلية المواطن الغربى ومخاوفه، على اعتبار أن الجماعة تمثل رأس الأفعى، والذى خرجت من رحمه كافة التنظيمات الأخرى، والتى تستلهم نهجها من كتابات منظريه، وبالتالى فإن محاربة الإرهاب تقتضى بالضرورة القضاء على التنظيم الأم.
فلو نظرنا إلى الدعم، سواء المالى أو الإعلامى التى حصلت عليها الجمعيات الموالية للإسلام السياسى فى فرنسا، نجدها ترتبط إرتباطا عميقا بجماعة الإخوان، وعلى رأسها قناة الجزيرة القطرية، والتى تسعى إلى نشر أفكار الجماعة فى العالم، فى دليل دامغ على العلاقة القوية التى تجمع بينهم، وبالتالى الدور الذى تلعبه فى زعزعة استقرار فرنسا، وغيرها من الدول الأوروبية، فيما يمثل تحديا صريحا للنظام الحالى فى باريس، وذلك على الرغم من الدعم الكبير الذى حظت به الجماعة من دول الغرب فى سنوات الربيع العربى للوصول إلى السلطة فى الشرق الأوسط.
مظاهرات السترات الصفراء
لعل النهج الشمولى الذى تتبناه الجماعة يمثل الهدف الرئيسى وراء مباركتها للعمليات الإرهابية التى يشهدها الغرب الأوروبى، حيث أن طموحاتهم فى السلطة لا تقتصر على الدول الإسلامية فى الشرق الأوسط، ولكنها تمتد إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث تسعى إلى الوصول إلى السلطة فى دول الغرب عبر الاستيلاء على المنظمات والمعاهد والجامعات، باعتبارها بوابة التسلل إلى المجالس المحلية ومن ثم إلى السلطة.
ففى فرنسا، نجحت الجماعة فى استقطاب المجتمع المسلم فى الداخل، والذى يمثل قوة ضغط كبيرة، حاولت من خلاله الضغط على السلطات الحاكمة فى سنوات الربيع العربى لتبنى سياسات تخدم أهداف الجماعة، خاصة فى الشرق الأوسط، بينما اتجهت فى السنوات الأخيرة إلى استخدامهم كوقود لنار الإرهاب عبر قيامهم بعمليات سواء فردية أو جماعية تستهدف المواطن الفرنسى فى عقر دارة، باستخدام شعارات التنظيمات المستحدثة، وعلى رأسها داعش.
التصريحات لا تكفى.. هل ينجح ماكرون فى تصحيح خطايا الأسلاف
وهنا يثور التساؤل حول ما إذا كان الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون يمكنه استرضاء الشارع الفرنسى، عبر تصحيح "خطايا" أسلافه، من خلال إتخاذ خطوات أكثر جدية تجاه الجماعة فى المرحلة المقبلة، خاصة مع تنامى الغضب الداخلى من جانب، بالإضافة إلى مساعى المعارضة الفرنسية للقفز من خلال التركيز على مطالبات المواطنين التى سبق وأن رفعوها فى تظاهراتهم، والتى تتلامس بشكل مباشر مع مخاوفهم فى المرحلة المقبلة.
يبدو أن تصريحات ماكرون، والتى سبق وأن أدلى بها فى أبريل الماضى، حول خطورة "الإسلام السياسى"، والذى يقود المجتمع الفرنسى نحو العزلة، ليست كافية إطلاقا، حيث أن هناك حاجة ملحة لحظر تلك التنظيمات، والتى تسعى للحصول على صفة سياسية، عبر الزج بأعضائها فى الانتخابات المحلية الفرنسة، وهو ما يمثل خطورة متفاقمة على استقرار المجتمع الفرنسى فى المرحلة المقبلة.