"بدون الولايات المتحدة لن تتمكن ألمانيا أو أوروبا من حماية نفسها على نحو فعال".. هكذا قال وزير الخارجية الألمانى هايكو ماس، ردا على التصريحات التى أدلى بها الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، الخميس الماضى، حول ما اعتبره "موتا إكلينيكيا" لحلف شمال الأطلسى "الناتو"، ملقيا باللوم على السياسات الأمريكية أحادية الجانب، ليثير امتعاض إدارة ترامب من جديد، وذلك بعدما وصفها بـ"الخصم" لأوروبا فى خطاب له قبل عام أمام قوس النصر فى باريس، أثناء الاحتفال بذكرى الحرب العالمية الأولى، داعيا آنذاك إلى تأسيس جيش أوروبى موحد، لحماية القارة العجوز من خصومها، وهى الدعوة التى اعتبرها الكثير من المتابعين أن مثل هذه المبادرة ربما تكتب كلمة النهاية للناتو الذى ظل لعقود طويلة من الزمن رمزا للمعسكر الغربى.
إلا أن التصريح الذى أدلى به وزير الخارجية الألمانى يمثل انعكاسا صريحا لرغبة قوى فاعلة فى أوروبا لبقاء التحالف الغربى، تحت قيادة الولايات المتحدة، ولكنه يحمل فى طياته صراعات أوروبية، لا يقتصر مداها على الموقف من الناتو، وإنما يمتد إلى العديد من القضايا الدولية الأخرى، ربما بدأت بوادرها فى الظهور مع صعود ماكرون إلى عرش الإليزيه، فى ظل طموحاته لاستعادة أمجاد بلاده الإمبراطورية، سواء عبر قيادة الاتحاد الأوروبى تارة، أو السعى نحو إيجاد دور أكبر فعال فى القضايا الدولية المثارة، وعلى رأسها الأزمة الإيرانية، تارة أخرى، أو حتى من خلال تقديم نفسه باعتباره امتدادا للقادة الذين طالما دافعوا عن القيم الحقوقية والليبرالية، التى طالما تبنتها الأنظمة الليبرالية فى القارة العجوز خلال السنوات الماضية.
مواجهة صريحة.. الشقاق الأوروبى يتجلى على ظلال الناتو
ولعل الموقف الألمانى الداعم للناتو يمثل تصعيدا غير مسبوق للصراع المحتدم على القيادة داخل أروقة الاتحاد الأوروبى، فى ظل مساعى ماكرون لخلافة المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل فى قيادة التكتل الأوروبى، خاصة بعد ظهور حالة من عدم التوافق بينها وبين الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، وهو ما بدا بوضوح فى محاولات الرئيس الفرنسى فى استرضاء واشنطن مع بداية حقبته فى 2017، بينما باءت محاولاته بالفشل بسبب موقف الإدارة الأمريكية المناوئ للتكتل الأوروبى، ورغبته فى تقويضه، باعتباره منافسا لواشنطن على قمة النظام الدولى، على عكس رؤية الإدارات الأمريكية السابقة والتى طالما نظرت إلى القارة العجوز باعتبارها حليفا وثيقا لهم.
ماكرون يسعى لتقويض القيادة الأمريكية للغرب عبر الناتو
وهنا يمكننا القول بأن الانشقاق الأوروبى حول الناتو، يعد بمثابة القشة التى كشفت هوة الانقسام داخل الاتحاد الأوروبى، وهو الأمر الذى ربما يتفاقم مع التطورات المقبلة، خاصة بعد خروج بريطانيا المنتظر من الكيان القارى، فى يناير المقبل، بالإضافة إلى موجة الاحتجاجات التى اجتاحت دولا عدة بأوروبا، مع زيادة المطالب بالانفصال عن أوروبا الموحدة، وهو ما بدا بوضوح فى مظاهرات السترات الصفراء التى شهدتها باريس فى الأشهر الماضية، بالإضافة إلى التقدم الكبير الذى تحققه تيارات اليمين الشعبوى فى العديد من دول القارة فى الآونة الأخيرة، وهو ما يبدو واضحا فى انتخابات البرلمان الأوروبى، والتى حقق فيها حزب الجبهة الوطنية الفرنسى بزعامة مارين لوبان نجاحا كبيرا، بالإضافة إلى الانتخابات الأخيرة التى شهدتها عدة مقاطعات بألمانيا الشرقية.
نقطة فارقة.. ألمانيا تكفر بأوروبا لصالح الناتو
يبدو أن التصريح الذى أدلى به ماس يعد بمثابة نقطة فارقة فى المواقف الألمانية، والتى اتسمت بمناوئتها للولايات المتحدة، منذ تنصيب ترامب، حيث أنه يعد بمثابة مغازلة صريحة من قبل برلين لواشنطن، خاصة فى ظل الاعتراف الصريح بعدم قدرة أوروبا على حماية نفسها بدون دعم واشنطن، وهو ما يمثل انقلابا صريحا على المواقف السابقة التى تبنتها المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وعلى رأسها الدعم الذى قدمته لمبادرة ماكرون بتأسيس جيش أوروبى موحد، وتوقيعها على معاهدة "آخن"، مع الرئيس الفرنسى، والتى اعتبرها قطاع كبير من المتابعين بمثابة اللبنة الأولى فى تطبيق الفكرة الفرنسية، والتى تمثل بديلا صريحا لحلف الناتو.
ميركل تسعى لإنهاء التوتر مع ترامب على حساب الاتحاد الأوروبى
الموقف الألمانى الداعم للناتو، يساهم فى تقوية شوكة واشنطن بصورة كبيرة، باعتبارها القائد الفعلى للمعسكر الغربى، بينما يقدم دليلا دامغا على اقتراب نهاية أوروبا الموحدة، والتى أصبحت على حافة الصراع فى المرحلة المقبلة، وهو ما يمثل نجاحا صريحا للسياسة التى تبناها ترامب منذ بداية حقبته، والتى تقوم فى الأساس على ضرورة تقويض الاتحاد الأوروبى، وهو ما بدا فى دعمه غير المشروط لخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى، ووعوده للندن بإبرام اتفاق تجارى غير مسبوق، فى حال الطلاق المباشر من التكتل دون اتفاق مع قيادته.
استرضاء واشنطن.. هل تغير ألمانيا مواقفها؟
وهنا يثور التساؤل حول ما إذا كانت برلين قررت التخلى عن قيادة أوروبا الموحدة، مقابل الفوز بـ"رضا" واشنطن فى المرحلة المقبلة، فى ظل منافسة تبدو متوقعة على دور قيادى فى حلف الناتو، الذى ربما تنتظره تغييرات كبيرة فى المستقبل القريب، فى ظل تحركات أمريكية نحو إعادة هيكلة التحالفات فى القارة العجوز، عبر التوجه شرقا نحو بولندا، وهو ما بدا واضحا فى قيام واشنطن بتأسيس قواعد عسكرية هناك فى وارسو فى الأشهر الماضية، فى خطوة ربما تعكس توجهات جديدة للحلف.
ماكرون وميركل يوقعان معاهدة آخن التى اعتبرها البعض نواة الجيش الأوروبى الموحد
المواقف الألمانية ربما تشهد تغييرات كبيرة فى المستقبل، لتميل نحو استرضاء واشنطن، بعد ما يقرب من 3 سنوات من التوتر، سواء فيما يتعلق بالموقف من إيران، أو تركيا، والتى يثور اللغط حول عضويتها لحلف الناتو، فى ظل توجهاتها الأخيرة والتى تمثل انتهاك صريح لتقاليد التحالف التاريخى، خاصة بعد ارتمائها فى أحضان موسكو عبر الانضمام لمظلة أستانا فى المحادثات حول الأزمة السورية، أو توجهها نحو شراء منظومة الصواريخ الروسية "إس 400" بالمخالفة لقوانين الناتو، وأخيرا بالعدوان الغاشم الذى شنته أنقرة على سوريا، ليصبح استمرارها فى التحالف الغربى محل شك فى المرحلة المقبلة