بعد أيام من إطلاق سراح الكاتب التركي أحمد ألتان، الذي كان يحاكم بتهمة مساعدة منظمة إرهابية، في قضية هيكلة وسائل إعلام حركة الخدمة، قررت المحاكمة إعادة اعتقاله مرة أخرى، وجاء ذلك عقب مقالة نشرها الكاتب في موقع الأخبار التركي «T24».
وعرضت جريدة زمان التركية الناطقة باللغة العربية المقالة التي تناولها الكاتب بعنوان «مزمار ورقي»، ورصد فيها مشاهد إنسانية، كتبها بأسلوب رهيف، تصور مدى الظلم الذي يتعرض له زملاؤه المحبوسون، ووننشر هنا نصًّا:
ليس هناك أكثر فزعًا ورعبًا في الحياة مِنْ أن تواجه قوة مذهلة لشخصٍ يتحكّم في مصيرك؛ حيث يمكن أن يقتلك أو يحبسك أو يرسلك إلى المنفى أو أن يتركك حرًّا طليقًا. قيام مثل هذا الشخص بسجنك أو إطلاق سراحك أمر مدمّر بالقدر نفسه، بغض النظر عن اختلاف النتيجة. ذلك أنك لا تملك أي حق في الكلام؛ بل الذين يتمتعون بهذا الحق أو السلطة هم الأشخاص الذين يرتدون عادة عباءة ويجلسون على منصة مرتفعة ويُطلق عليهم «القضاة».
إن الشيء الوحيد الذي يسوّغ امتلاك الإنسان لمثل هذه القوة الخارقة هو أن يستخدمها في محلها بحيث يحقق العدل ويحفظ الحقوق.
حسنًا، ماذا يحدث إذا كانت مثل هذه القوة لا تبالي بمعايير الحق والعدالة؟هناك مشهد في رواية «وداعًا للسلاح» يصف فيه الكاتب همنجواي محاكمة الجنود الإيطاليين من قِبل قضاة عسكريين داخل كهفٍ بعد الهزيمة، إذ يرتدي القضاة قبعاتهم على رؤوسهم، ويلقون التحية العسكرية، ومن ثم يصدرون أحكام الإعدام على الناس دون أن يعبأوا بشيء، واثقين من أن هذه الأحكام لن تؤثر قطعًا على مصير أنفسهم. لقد كان هذا المشهد مذهلًا أيضًا في الفيلم الذي مثّله كل من «روك هدسون» و«فيتوريو دي سيكا»، حيث كان القضاة يصدرون الأحكام، ويرسلون الأشخاص إلى فرقة الإعدام دون مبالاة.
لقد امتثلتُ أمام القضاة عدة مرات خلال فترة الحبس الطويلة، لم يعيروا سمعًا لما قلت في الدفاع عن نفسي، فكلما قدمت لهم أدلة براءتي استمروا في ترديد الاتهامات نفسها مرارًا وتكرارًا وكأنني لم أقل شيئًا. فحكموا عليَّ بالسجن المؤبد أولاً، ثم خفّفوا العقوبة إلى عشر سنوات ونصف، وأخيرًا أطلقوا سراحي.
بينما أسطر هذا المقال أنتظر في الوقت ذاته القرار الذي سيتخذه القاضي بناءً على استئناف المدعي العام الذي اعترض على قرار إطلاق سراحي، فربما يعيدونني إلى السجن مرة أخرى..لقد سمعت الحُكم عليَّ بالسجن المؤبد، وبعد ذلك قرار إطلاق سراحي ومغادرة السجن من فم نفس القاضي في أوقات مختلفة. لقد أعياني قرار إطلاق سراحي بقدر حُكم الحبس المؤبد؛ لأنني كنت أعلم أن قرار الإفراج عني صدر من أشخاص لا يتمتعون بالسلطة التي تخوّل لهم اتخاذ قرار بحقي.
مكثت أكثر من ثلاث سنوات في زنزانة صغيرة مع اثنين من السجناء الأبرياء، لم يرتكبا أي جرم، لكن لا أحد أصغى إليهما، على الرغم من عرضهما أدلة براءتهما مرارًا وتكرارًا، وحُكم عليهما بالسجن من قِبل قضاة لا يختلفون شيئًا عن أولئك الذين كانوا في رواية "وداعًا للسلاح".
كان أحد رفيقيّ في الزنزانة في نفس عُمر ابني، وكان حديث الزواج عندما ألقي القبض عليه. إنه شخص متديّن، وفي الوقت نفسه مهتمّ بالفلسفة والأبحاث العلمية.
لديه مهارة يدوية مذهلة، إذ يمكنه إنجاز أشياء مدهشة بأدوات لا تخطر على البال، في مكان خالٍ من الإمكانات. كان يستطيع تحويل أكياس الملح إلى دمبل، وشوكة الطعام إلى مشبك، والملعقة الصغيرة إلى ملقاط، وإضافة مكونات مختلفة إلى وجبات السجن لابتكار أطباق جديدة. كان اسمه سلمان، ويعتقد أن الشكوى والتذمر هو سخط وعدم رضا بمشيئة الله وإرادته، فلا يشتكي أبدًا.
لم يكن لديه زوار لأسباب عديدة. إنه لم يكن يشكو من هذا أيضًا.
ذات يوم بينما كنت أكتب روايتي الجديدة “Hayat Hanım” (السيدة حياة) على الطاولة البلاستيكية، سمعت عزفًا موسيقيًّا في الفناء..إنه صوت مزمار!
خرجت إلى الفناء، إذا به سلمان يتكئ بظهره على الجدار، ويعزف المزمار وعيناه مغلقتان، تلاشت فجأة الضوضاء في الزنزانات المحيطة، وعمّ السكونُ المكان، فأخذ الجميع يستمع إلى هذه الموسيقى المفاجئة. وبمجرد انتهاء العزف سُمع صوت دويّ، فقد ألقى المساجين في الزنزانات المجاورة قِطع الحلوى التي اشتروها من كانتين السجن إلى الفناء الذي نحن فيه، مما يدل على مدى إعجابهم ورغبتهم في السماع مرة أخرى، فظل سلمان يعزف لساعات.
وبعد أن أُغلق باب الفناء سألته «من أين أتيت بالمزمار؟، لقد صنعه من كرتون التقويم. ولما كان لا يمتلك شريط قياس أخذ يقدِّر المسافة بين كل ثقب بأصبعه، وقطع عنق زجاجة بلاستيكية وجعلها فمًا للمزمار.
كان العزف الذي يصدر من مزماره لا يمكن لأي أداة أخرى على وجه الأرض أن تضاهيه، كان له نغمة غريبة وغليظة إلى حد ما، ومع ذلك لم يعجز سلمان عن عزف أية مقطوعة أو التعبير عن أي نغمة يريد.
إنه لم يكتفِ بعزف المقطوعات الحزينة فحسب، بل عزف الألحان التي تبعث على السعادة والسرور أيضًا، لكن المزمار كان صوته يميل إلى الحزن على وجه العموم، تم إطلاق سراحي من السجن في منتصف إحدى الليالي وسألني الجميع عن شعوري، أرادوا أن يسمعوا مني كلمات الفرح التي يشعر بها الشخص في أول لحظات الحرية التي ينالها بعد سنوات من الحبس، غير أنني أخبرتهم بأنني حزين بعض الشيء.
قد تركت ورائي خلف القضبان الحديدية الآلاف من الأبرياء، بما في ذلك سلمان بمزماره الورقي.
كنت أعلم أنهم أبرياء، لكن لم يكن بمقدوري إنقاذهم، ولم يكن أحد يصغي إليهم، ليس القضاة فحسب، بل ثلَّة كبيرة من المجتمع تحولوا إلى هؤلاء الرجال الذين يحكمون على الآخرين بالإعدام في الكهف بلا مبالاة، يرتدون قبعاتهم، ويحيون الجلوس، ثم يرسلون الشخص إلى فرقة الإعدام، وينتظرون بعد ذلك الضحايا الجدد.
لا يمكن أن تشعر بالفرح عند مغادرة السجن بعدما رأيت هذا الكهف، وشهدت معاناة الأبرياء، واستمعت إلى المزمار الورقي. بل يشعر الإنسان عندها وكأنه متواطئ مع الآخرين على جريمة شنعاء. فبينما كنت ضحية للظلم في هذا السجن تشعر وكأنك أصبحت شريكًا في ظلمٍ أعظم بعد مغادرته.
إني أعلم أنه ليس هناك أكثر فزعًا ورعبًا في الحياة مِنْ أن تواجه قوة مذهلة لشخص يتحكم في مصيرك؛ كما أعلم مدى العذاب والإذلال الذي تلقاه عندما يتجاهل صاحب هذه القوة ما تقول ولا يعبأ به.
أعلم أيضًا الصوت الذي خرج من المزمار الورقي، وكيف عبّر عن نار شوق تضطرم لا تخبو، وأعلم كذلك أنه من المحتمل أن يقبضوا عليَّ مرة ثانية، لكن الاعتقال ليس احتمالًا بالنسبة لسلمان، لأنه معتقل بالفعل.