كانت تدق الساعة الـ 12 بعد منتصف ليلة الجمعة، ايذانا ببدء موجة غضب فى إيران .. أعلنت حكومة الرئيس حسن روحانى فجأة ودون انذار مسبق تقنين حصص البنزين، خفض الدعم ورفع أسعار الوقود بنسبة 50% لمن يمتلكون "بطاقة وقود" ولهم حصص شهرية، ليصبح 1500 تومان للتر الواحد (13سنت) بدلا من 1000 تومان (أقل من 9 سنتات)، وزاد سعر البنزين الحر لـ 300%، ليبلغ 3آلاف تومان.. اشعل الوقود احتجاجات تخللها أعمال عنف لم تنظفئ نيرانها حتى كتابة هذه السطور.. وقبل الخوض في تفاصيل وما وراء كواليس القرار، ينبغى الاجابة على السؤال الأبرز، وهو : كيف لبلد منتج للنفط فى العالم يؤل به الحال إلى زيادة سعر إحدى منتجات تكرير الذهب الأسود المفترض أنها انتاجها بكميات وفيرة؟.
وأشعل الوقود احتجاجات تخللها أعمال عنف لم تنظفئ نيرانها حتى كتابة هذه السطور.. وقبل الخوض في تفاصيل وما وراء كواليس القرار، ينبغى الإجابة على السؤال الأبرز، وهو : كيف لبلد منتج للنفط فى العالم يؤول به الحال إلى زيادة سعر إحدى منتجات تكرير الذهب الأسود المفترض أنها تنتج بكميات وفيرة؟
ينبغى الإشارة إلى أن طهران تمتلك رابع أكبر احتياطيات للنفط في العالم، وثاني أكبر احتياطيات من الغاز الطبيعى، وتعد ثالث أكبر منتج للنفط فى "أوبك"، قبل العقوبات الأمريكية أى قبل اغسطس 2018 كان لديها متوسط انتاج 3.84 مليون برميل يوميا، ويعتمد على الاقتصاد النفطى، ورغم احتياطيات إيران الضخمة من الطاقة، تجد صعوبة منذ سنوات فى تلبية الطلب المحلى على الوقود بسبب نقص السعة التكريرية والعقوبات التى تحد من توافر قطع الغيار اللازمة لصيانة المجمعات، فى الوقت نفسه تعد أسعار البنزين فى إيران من أرخص البلدان عالميا بسبب الدعم الكثيف وتراجع قيمة عملتها، لكن البلد يعانى من تفشى ظاهرة تهريب الوقود إلى الدول المجاورة وبيعه فى السوق السوداء، وأصبحت مهنة يمتهنها فقراء الأقاليم الحدودية ممن يعانون البطالة باتت لها مخاطرها الآونة الأخيرة.
قرار جبهة الحرب الاقتصادية
أما بالنسبة لكواليس اتخاذ هذا القرار، فلم يأخذ القرار دورته العادية داخل أروقة ومؤسسات الحكم فى إيران ولم يصوت عليه البرلمان الذى يعد هيئة تشريعية، حتى أن نواب إيرانيين أبدوا استيائهم من عدم اعلامهم بشكل مسبق، وفى مقدمتهم النائب المعتدل على مطهرى ومصطفى كواكبيان عضو لجنة الأمن القومي ،ومهرداد لاهوتى الذى قال ساخرا "الأفضل لنا أن نغلق هذا البرلمان ونمنح ميزانيته للمجلس التنسيقى الذى قرر"، لكنه بالنسبة لرئيس البرلمان على لاريجانى كان الأمر يختلف، فقد اتخذ القرار للمرة الأولى داخل "المجلس الأعلي للتنسيق الاقتصادي".
المجلس يضم رؤساء السلطات الثلاثة التنفيذية المتمثلة فى روحانى والتشريعية لاريجانى والقضائية شقيقه آملى لاريجانى، وتأسس بقرار من المرشد الأعلى آية الله على خامنئى عقب انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووى مايو 2018، وكان بمثابة الجبهة التى تدير من خلالها إيران الحرب الاقتصادية التى تشنها الولايات المتحدة –بحسب تعبير المرشد- ووظيفته اتخاذ القرارات الاقتصادية العليا وايجاد حلول للأزمة الاقتصادية والتصدى للعقوبات الأمريكية، وتتمتع قراراته بتأييد المرشد الأعلى، وحاول روحانى فى مايو 2019 أن يلقى بمسئولية الوضع الاقتصادى فى ملعب المرشد ودعاه لقيادة الحرب الاقتصادية، لكنه حمل روحانى المسئولية كاملة ورد وقتها وفقا لرواية الأخير"الظروف ظروف حرب ونحن بحاجة لقائد الجبهة، والقائد هو رئيس الجمهورية".
المرجعية الدينية خالفت رأى المرشد للمرة الأولى
فى الساعات الأولى التى أعلن فيها رفع أسعار الوقود، بدأت موجة الغضب الشعبى ونزول العشرات إلى الشوارع وتصعيد واضطرابات شهدتها عدة مدن إيرانية مساء الجمعة وصلت لذروتها يومى السبت والأحد الماضيين، عنصر المفاجأة فى القرار أوجد تخبط فى ردود الأفعال الداخلية وصاحب ذلك أيضا حالة من الانقسام بين الطبقة السياسية والمرجعية الدينية، السياسيين انقسموا بين مؤيد للخطوة لكنه يرفض توقيتها كـ الباحث الاقتصادى سعيد ليلاز الذى رأى أنها خطوة نحو العدالة الاجتماعية، وآخر يرى أنها ستلقى بظلالها على الانتخابات التشريعية المزمع اجراؤها فبراير2020، كالناشط الاصلاحى غلام رضا أنصاري، كما رأى المنظر الإصلاحى الإيرانى مصطفى تاج زادة أن زيادة سعر البنزين تزامنا مع تنامى التضخم والبطالة والعقوبات دون الرجوع إلى أصوات الشعب وعدم إعطاء الاولوية لرفع العقوبات عن كاهله هو خيار سيء ولا مبرر له، كل ذلك انقسام معهود بين الأوساط السياسية فى إيران حتى وإن خالفت آرائهم رأى الولى الفقية (المرشد).
لكن لعل المفارقة التى وقعت، هو تسرع 3 من كبار المراجع ورجال الدين فى إبداء مواقفهم مع دخول الاحتجاجات يومها الثانى، والتى وجدت زخما كبيرا فى وسائل الاعلام بسبب معارضتها الصريحة للخطوة، وهم آية الله علوى جرججانى، وصافى حلبايجانى، ومكارم الشيرازى، واصدر كلا منهما على حدة بيانا طالبوا بإعادة النظر فى قرار زيادة سعر البنزين، والشيرازى طالب التدقيق ودراسة القرار من قبل الحكومة، بل والأدهى جلبايجانى الذى يعد المرجع الدينى الأبرز الذى شغل مناصب عدة أهمها مجلس صيانة الدستور عقب الثورة الاسلامية79، طالب صراحة نواب البرلمان بالغاء القرار، واصطدمت ردود أفعالهم بتأييد المرشد الأعلى لزيادة أسعار الوقود، وعليه سحب النواب من كلا التيارين الإصلاحى والمحافظ مشروع قرار كان سيلزم الحكومة الغاء القرار، ويبدو أن المرجعية التزمت الصمت.
اثر العقوبات الامريكية علي قرارات الحكومة الايرانية
مساء اليوم الثالث من الاحتجاجات، الاحد، وبينما كانت الولايات المتحدة تعرب عن مساندتها للمحتجين فى رد فعل دولى أثار حفيظة السياسيين، خرج روحانى بكلمة متلفزة حاول امتصاص غضب الشارع الملتهب على وقع احراق البنوك والمتاجر، وكشف النقاب عن الدور الذى لعبته العقوبات الأمريكية على قراراته يبدو بغير قصد، وقال: نواجه عوائق في بيع النفط، بلغت عائدات النفط في العام 2011 مليار دولار.. لكن الظروف الآن مختلفة" فى إشارة إلى العقوبات الولايات المتحدة على قطاع النفط نوفمبر 2018، والتى حرمت طهران من عائدات بيع النفط التى تشكل عصب الموزازنة المالية الإيرانية.
وقال إن هدف غلاء البنزين كان مساعدة العائلات من ذوي الدخل المتوسط والمحدود ممن يعيشون ضغوطا حيث سيتم منح دعم نقدى شهري لـ18 ألف أسرة (حوالى 60 مليون مواطن) من مبيعات البنزين، وأشار روحانى إلى أنه كان امام 3 خيارات أخرى يستحيل تطبيقها فى ظل تردى اقتصادى أثقل كاهل الإيرانيين، لم يتمكن روحانى بخطابه اطفاء لهيب النيران التى اشعلها الوقود فى الشوارع، وامتد لهبها إلى البرلمان.
تداعيات القرار.. عدم الكفاءة السياسية تمهد لعزل روحانى
كشر النواب أنيابهم، ولم يتناسوا تجاهلهم فى قرار كهذا، وجمع مجتبى ذو النور النائب المتشدد والمنتقد الدائم لروحانى توقيعات نواب لإستجوابه فى البرلمان أمس، الأحد، ليس فيما يتعلق بالوقود بل حول تطبيق سياسات اقتصادية مكررة وهى إعادة العمل بنظام بطاقات الوقود وتحديد سعرين للوقود، النظام الذى طبق فى عهد الرئيس السابق أحمدى نجاد وأثبت فشله وكان ينتقده روحانى ورأى أنه كان أدى لتفشى الفساد، لكن الأخطر هو تلويح البرلمان له بطرح عدم الكفاءة السياسية فى إدارة البلاد والتى قد تمهد لعزله بحسب المادة 89 من الدستور الإيرانى، واستنساخ تجربة عزل أول رئيس إيرانى أبو الحسن بنى الصدر فى 1981م.
الاحتجاجات تلقى بظلالها على الانتخابات التشريعية المقبلة
ولعلى مستوى العملية السياسية فى إيران، فمن المؤكد أن حالة الغضب التى انتابت الإيرانيين سوف تلقى بظلالها على مستقبل الانتخابات التشريعية المزمع عقدها 21 فبراير 2020، الأمر الذى أيده محللين إيرانيين، غلام رضا انصاري النشاط السياسي الاصلاحى قال فى مقابلة مع صحيفة آرمان ملى الإصلاحية "لا يرى أفق جيدة فيما يتعلق بنسبة المشاركة فى انتخابات مجلس الشورى الاسلامى (البرلمان) المقبلة".الأمر الأخر وقوع التيار الاصلاحى الذى يدعم روحانى في مأزق، وقالت الناشط السياسى الإيراني، أن التيار الاصلاحى مشكلته الكبرى الآن هو الانتخابات، وعليهم انتظار معجزة مشاركة الشعب في الانتخابات دعما له.