اتهام روسى مباشر لواشنطن بتقويض الجهود الرامية إلى إقامة منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل فى الشرق الأوسط، بدا واضحا فى تصريحات السفير الروسى ميخائيل أوليانوف حول مؤتمر أممى لتحقيق هذا الهدف، حيث رفضت الإدارة الأمريكية المشاركة فيه، بسبب الانحياز الصريح لإسرائيل، والتى ترفض الانضمام إلى أى معاهدة من شأنها الحد من الانتشار النووى، وهو ما يمثل محاولة جديدة من موسكو لإلقاء الضوء على ما يمكننا تسميته بـ"الازدواجية" الأمريكية فى التعامل مع القضية النووية، فى ظل معطيات متواترة، أبرزها رغبة الرئيس الأمريكى فى تضييق الخناق على إيران، إلى الحد الذى وصل إلى انسحابه من الاتفاق النووى، الذى سبق وأن أبرمته الإدارة السابقة مع طهران فى يوليو 2015، وذلك فى إطار سياسته الهادفة إلى توسيع القيود على الدولة الفارسية، بحيث لا تقتصر على إمكاناتها النووية، ولكن لتشمل قدراتها التسليحية، وإجرائها لتجارب الصواريخ الباليستية.
ولعل التصريحات الروسية تمثل امتدادا لما يمكننا تسميته بـ"المقايضة النووية"، والتى تقوم فى الأساس على ضرورة تجريد خصوم واشنطن من السلاح النووى، مقابل اتخاذ النهج نفسه مع حلفائها، وهو ما يمثل انعكاسا صريح لصعود موسكو إلى مصاف القوى الدولية الكبرى، خاصة فى منطقة الشرق الأوسط، فى ظل تنامى تحالفاتها من جانب، بالإضافة إلى استئثارها بالنفوذ فى سوريا، التى تعد أحد أبرز بؤر الصراع فى المنطقة بعد سنوات من المنافسة مع الولايات المتحدة وحلفائها فى أوروبا الغربية، ليثور التساؤل حول ما إذا كانت إسرائيل ستمثل المقابل النووى أمام إسرائيل فى المرحلة المقبلة، من وجهة النظر الروسية.
المقايضة الروسية.. القوى الدولية تواصل الإعداد لـ"الصراع الجديد"
لعبة "المقايضة" الروسية مع واشنطن لم تبدأ بالحديث الروسى حول المؤتمر الأممى المشار إليه، وإنما بدأت بتصريحات للرئيس الروسى فلاديمير بوتين، فى 15 نوفمبر الجارى، حول مشاركة فرنسا وبريطانيا (حلفاء أمريكا التاريخيين فى أوروبا) فى مفاوضات الأسلحة الاستراتيجية مع روسيا والولايات المتحدة، ردا على اقتراح الرئيس الأمريكى دونالد ترامب بإشراك الصين (حليف روسيا)، وهو ما يمثل موافقة روسية مشروطة بالمطلب الأمريكى حول توقيع اتفاقية جديدة، بعد انسحاب واشنطن من معاهدة القوى النووية المتوسطة والقصيرة المدى، التى سبق وأن وقعها الرئيس الأمريكى الأسبق رونالد ريجان، مع نظيره السوفيتى ميخائيل جورباتشوف، فى أواخر الثمانينات من القرن الماضى، قبل سنوات قليلة من انهيار الاتحاد السوفيتى.
المناورة الروسية تقوم فى الأساس على وضع أى خطوة من شأنها تجريد حلفاء موسكو من قوتهم، ستكون هناك فى المقابل خطوة مماثلة تجاه حلفاء واشنطن، فيما يمكننا تسميته بمرحلة "الإعداد للصراع الدولى الجديد"، حيث تسعى القوتان الأمريكية والروسية نحو إخلاء الساحة من أى منافس ثالث، وهى اللعبة التى بدأها الرئيس الأمريكى عندما سعى إلى تجريد حلفائه الأوروبيين من قوتهم الاقتصادية، عبر إجراءاته الجمركية، بينما لوح مرات عدة بنزع الحماية العسكرية منهم، إذا لم يتمكنوا من الوفاء بالتزاماتهم تجاه التحالفات فيما بينهم، وعلى رأسها حلف الناتو، بالإضافة إلى سعيه الدؤوب لتفكيك الاتحاد الأوروبى، وذلك بعدما تنامى نفوذه بصورة كبيرة فى السنوات الماضية، ليتحول من حليف إلى منافس فى رؤية الإدارة الحالية.
تحديات جديدة.. خضوع إيران مرهون بتنازل إسرائيل
ومن هنا يمكننا القول بأن الحديث الروسى عن الدور الأمريكى فى تقويض الجهود الرامية إلى إقامة منطقة خالية من أسلحة الدمار الشامل فى الشرق الأوسط، يمثل امتدادا صريحا لتصريحات بوتين السابقة حول معاهدة الأسلحة الاستراتيجية، بحيث يصبح خضوع إيران للشروط الأمريكية عبر إبرام اتفاق جديد، مرهون، من وجهة النظر الروسية، بالموقف من إسرائيل، وهو الأمر الذى يضع الكثير من التحديات أمام الضغوط الأمريكية على طهران، لإجبارها على الامتثال للشروط الأمريكية، فى الوقت الذى يحاول فيه ترامب تحقيق أكبر قدر من الانجازات الدبلوماسية قبل الانتخابات الأمريكية المرتقبة فى العام المقبل، خاصة فيما يتعلق بالملفات النووية التى أرقت واشنطن لعقود، سواء فى كوريا الشمالية أو إيران.
الدور الروسى يبقى محوريا فى الوصول إلى أى اتفاق أمريكى مع ما يمكننا تسميتهم بـ"الدول المارقة"، حيث أنها تحظى بعلاقة قوية مع الجانب الإيرانى، على الدعم الروسى لطهران فى زمن الحصار من جانب، بالإضافة إلى التعاون بينهما فى سوريا خلال السنوات الأخيرة، ناهيك عن أن موسكو كانت أحد الدول الأعضاء فى الاتفاق النووى، الذى أبرمته الدولة الفارسية مع القوى الدولية الكبرى، باعتبارها أحد الأعضاء الدائمين فى مجلس الأمن، وهو ما يضع واشنطن فى مأزق يبدو صعبا إلى حد كبير، فى مرحلة ما قبل الانتخابات الأمريكية المرتقبة.
رهانات ترامب.. موسكو تحاول مزاحمة واشنطن من جديد
وتكمن صعوبة الموقف الأمريكى فى رهان الرئيس دونالد ترامب على تحقيق أكبر قدر من الإنجازات الدبلوماسية، لاسترضاء المواطن الأمريكى عبر تقويض التهديدات التى تواجهه منذ عقود، من جانب، فى الوقت الذى يراهن فيه على القاعدة المؤيدة له، والموالية لإسرائيل، وهو ما بدا فى المواقف المتواترة لإدارته، والتى تراوحت بين الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وحتى تصريح وزير الخارجية الأمريكى مايك بومبيو، حول شرعية المستوطنات، وهو التصريح الذى أثار ضجة دولية كبيرة، فى الأيام الماضية، باعتباره دليلا جديدا على الانحياز الأمريكى للدولة العبرية.
يبدو أن أهداف موسكو من وراء موقفها الحالى، لا يقتصر على تجريد حلفاء واشنطن من قوتهم، ولكن تمتد إلى تقويض النفوذ الأمريكى فى الشرق الأوسط تماما، حيث أن الحديث عن نووية إسرائيل يساهم بصورة كبيرة فى زيادة مصداقية موسكو، أمام الرأى العام العربى، فى الوقت الذى تخسر فيه واشنطن نفوذها تدريجيا بسبب انحيازها الصارخ فى القضية التى كانت سببا رئيسيا فى سيطرة أمريكا على مقاليد الأمور فى المنطقة لعقود طويلة من الزمن، وبالتالى يمكن لروسيا تقديم نفسها كوسيط أكثر مصداقية يمكنه مزاحمة الدور الذى تلعبه الولايات المتحدة فى المرحلة المقبلة.