عندما تحول معسكر "الحلفاء"، فى أعقاب انتصاره فى الحرب العالمية الثانية، نحو الصراع بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى، باعتبارهما أبرز قوتين يمكنهما قيادة العالم، اختار الغرب الأوروبى الانحياز لصالح واشنطن، إبان حقبة الحرب الباردة، ليتحول الصراع من إطار ثنائى، إلى إطار جماعى بين كتلتين، لتتحول أمريكا نحو قيادة الكتلة الغربية، مقابل تقديم المزايا الاقتصادية والحماية الأمنية لحلفائها، فى ظل عدم قدرة دول أوروبا على التعافى اقتصاديا من الأثار المدمرة التى لحقت بهم جراء الحروب المتواترة، وبالتالى عجزها عن الدفاع عن نفسها عسكريا، فأصبح حلف "الناتو" بالنسبة لأوروبا، وسيلة دفاعية لحماية أراضى دول القارة العجوز من أى اعتداء خارجى، بالإضافة إلى كونه كيان عسكرى مواز لحلف "وارسو"، والذى انهار فى أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتى.
إلا أن معطيات التحالف بين أمريكا والغرب الأوروبى قد تغيرت فى السنوات الأخيرة، فى ظل مواقف إدارة ترامب، والتى أعلنت سحب المزايا الاقتصادية التى طالما تمتعت بها القارة العجوز لعقود طويلة من الزمن، عبر فرض الرسوم الجمركية على الصادرات القادمة منها إلى الأراضى الأمريكية، بالإضافة إلى حالة الغموض التى تكتنف مستقبل حلف شمال الأطلسى، خاصة بعدما لوحت واشنطن مرات عدة بإمكانية الانسحاب منه، إذا لم تف الدول الأعضاء بالتزاماتها المالية، وكذلك إعادة هيكلة الانتشار العسكرى الأمريكى فى القارة، عبر التوجه شرقا نحو بولندا، وتقويض أى دور دولى للقارة العجوز فى القضايا الدولية الشائكة، لتتغير معها توجهات الدول الرئيسية فى أوروبا، ولو جزئيا، من خلال الاحتفاظ بقدر من التوازن بين عدد من العواصم الأوروبية وموسكو، ربما ساهم فى فتح أفاق جديدة من العلاقة بين روسيا وخصومها التاريخيين فى دول أوروبا الغربية.
شكوك أوروبية.. تقارب قارى مع موسكو يستفز واشنطن
ولعل الشكوك الأوروبية حول النوايا الأمريكية قد بدت عدة مرات فى التصريحات التى أطلقها الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، وأخرها حديثه عما أسماه حالة "الموت الإكلينيكى" لحلف الناتو، فى ظل أحادية المواقف التى تتبناها إدارة ترامب، وهو التصريح الذى يمثل استكمالا للمبادرة التى سبق وأن أطلقها قبل عام، حول إنشاء "جيش أوروبى موحد، لمواجهة خصوم أوروبا، وعلى رأسهم روسيا والصين والولايات المتحدة، على حد وصفه، وهى المبادرة التى اعتبرها قطاع كبير من المحللين بمثابة بديل لحلف الناتو، بعد المواقف الأمريكية المتخاذلة تجاه التحالف التاريخى، والذى يمثل رمزا للصراع مع الاتحاد السوفيتى.
ترامب وماكرون
وعلى الرغم من الاستياء الذى أبداه عددا من القوى الأوروبية، وعلى رأسهم ألمانيا، جراء تصريحات ماكرون حول الناتو، إلا أن شكوكهم تجاه النوايا الأمريكية بدا واضحا فى العديد من مواقفهم السياسية، فى ظل سعيهم غير المسبوق فى التقارب مع الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، خاصة فيما يتعلق بالمشروعات الاقتصادية، فى ظل مخاوف من احتمالات ما يمكننا تسميته بـ"غدر أمريكى" طويل المدى، فى ظل رغبات ترامب القوية فى تقويض الاتحاد الأوروبى، ودعمه الكبير لصعود التيارات اليمينية المتطرفة، وكذلك الحديث حول رضا واشنطن باندلاع المظاهرات فى العديد من دول القارة، وعلى رأسها احتجاجات السترات الصفراء فى باريس.
التقارب الروسى الأوروبى أثار إلى حد كبير حفيظة الرئيس دونالد ترامب، وهو ما بدا بوضوح فى هجومه على ألمانيا فى العام الماضى، إثر توسيع التعاون مع موسكو فى مجال الغاز، حيث اتهم المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل صراحة بالتوجه الصريح نحو ما أسماه "التبعية" لروسيا، إذا ما غيرت سياسة الطاقة الخاصة بها.
مراجعة المواقف.. التوازن الأوروبى يتحقق بـ"روسيا القوية"
التغيرات الكبيرة فى المشهد الأوروبى، سواء تجاه الولايات المتحدة أو روسيا، ربما تثير العديد من التساؤلات حول موقف القارة العجوز تجاه الصراع الدولى الجديد، والذى بدأ يتشكل، فى العديد من مناطق العالم، خاصة بعد نجاح موسكو فى مزاحمة النفوذ الأمريكى فى منطقة الشرق الأوسط، عبر البوابة السورية، بالإضافة إلى توطيد نفوذها فى أسيا وأفريقيا، ونجاحها غير المسبوق فى اقتحام القارة الأوروبية، سواء عبر التعاون الاقتصادى، أو حتى من خلال اختراق قوتها الناعمة، وهو ما بدا فى التطور غير المسبوق فى العلاقة بين روسيا والفاتيكان، والتى بدت بوضوح فى رسالة البابا فرنسيس للرئيس الروسى فلاديمير بوتين، بينما كان فوق أجواء موسكو فى طريق العودة من جولته الآسيوية، فى إشارة تحمل مباركة ضمنية من رأس الكنيسة الكاثوليكية للتمدد الروسى فى أوروبا الغربية.
مارجريت تاتشر وميخائيل جورباتشوف
وهنا تكمن الحاجة لمراجعة المواقف التى تبنتها أوروبا تجاه موسكو، ليس فقط فى السنوات القليلة الماضية، ولكن أيضا منذ ما قبل نهاية الحرب الباردة، حيث أن بقاء روسيا القوية كان يمثل أولوية أوروبية، وهو ما بدا واضحا فى سياسات قيادات القارة العجوز، وعلى رأسهم رئيسة الوزراء البريطانية مارجريت تاتشر، والتى كانت ترغب فى بقاء الاتحاد السوفيتى، رغم أنها كانت بمثابة أبرز المناوئات للمبادئ الشيوعية، وهو ما بدا فى سعيها الدؤوب فى تحقيق قدر من التقارب بين أخر رؤساء الاتحاد السوفيتى ميخائيل جورباتشوف، ونظيره الأمريكى رونالد ريجان.
لم تقتصر مواقف تاتشر الداعمة لبقاء الاتحاد السوفيتى، على مجرد الوساطة والتهدئة مع الولايات المتحدة، وإنما امتدت إلى الاستنجاد بجورباشوف لمنع سقوط حائط برلين، والذى كان بمثابة اللبنة الأولى فى انهيار الكتلة الشرقية، وهو ما يمثل انعكاسا صريحا لرؤيتها القائمة على أن انهيار الاتحاد السوفيتى سيكون بداية التخلى الأمريكى عن بريطانيا، لصالح ألمانيا، ثم بعد ذلك أوروبا كلها، وهو الأمر الذى تحقق حرفيا، حيث أصبحت ألمانيا الحليف الرئيسى لواشنطن فى حقبة باراك أوباما، بينما انقلب ترامب على الحلفاء التقليديين فى القارة العجوز سعيا وراء استحداث حلفاء جدد، خاصة فى أوروبا الشرقية مع التوجه الجديد نحو بناء قواعد عسكرية فى بولندا لحصار روسيا.
عودة "الدب" الروسى.. أوروبا تبتز واشنطن بورقة موسكو
رؤية تاتشر، والتى تقوم على أولوية الحفاظ على روسيا القوية، لتحقيق قدر من التوازن مع واشنطن، على ما يبدو كانت ملهمة إلى حد كبير لخلفائها، سواء تونى بلير، والذى كشف أحد المسئولين السابقين فى الاستخبارات البريطانية عن دوره البارز فى دعم بوتين للوصول إلى عرش الكرملين للمرة الأولى فى عام 2000، فى الوقت الذى كانت تمر فيه موسكو بأضعف فتراتها خلال حقبة الرئيس الأسبق بوريس يلتسين، أو حتى بعد ذلك فى عهد تيريزا ماى، والتى سعت لإثارة فزاعة موسكو بعد محاولة تسميم العميل الروسى المزدوج سيرجى سكريبال فى لندن، فى محاولة لإحياء مخاوف الغرب من عودة "الدب الروسى" من جديد لتنفيذ أجندته عبر استخدام سياسة لاغتيال خصومه فى الخارج.
بوتين وترامب
ولعل الحديث المتواتر حاليا حول دور روسى فى إثارة الفوضى فى العواصم الأوروبية، سواء عبر تأجيج المظاهرات أو ما يثار حول التدخل فى الانتخابات الأوروبية، هو بمثابة محاولات أوروبية لإثارة الفزاعة الروسية من جديد، فى محاولة لاستقطاب الجانب الأمريكى من جديد، أو إعادة توجيه الدفة الأمريكية، نحو حلفائها التقليديين، فى أوروبا الغربية، بينما تسعى دولا أخرى لتحقيق التقارب مع روسيا، فى محاولة لتحقيق التوازن، بالإضافة إلى إثارة حفيظة واشنطن، كما هو الحال مع ألمانيا.
إلا أن ألمانيا ليست الدولة الأوروبية الوحيدة التى سعت إلى التقارب مع روسيا، فهناك أيضا فرنسا، والتى سعت إلى التقارب مع روسيا، رغم التصريحات العدائية التى تثور بين الحين والأخر من جانب الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون، والذى سبق وأن وصفها بالخصم، إلا أنه عاد ليشدد على ضرورة التحرك الأوروبى المستقل فى التعامل مع روسيا، بعيدا عن التوجيهات الأمريكية، وهو ما يحمل فى طياته محاولة صريحة من قبل باريس، للضغط على واشنطن للعودة من جديد إلى حلفائها، وإجبارها على العودة إلى الصفقة التى جمعت أمريكا بأوروبا الغربية منذ أواخر الأربعينات من القرن الماضى.