قررت مصر إغراق خمس سفن عند مدخل قناة السويس يوم 3 نوفمبر، مثل هذا اليوم، 1956، حسبما يذكر كتاب «الأطلس التاريخى لبطولات شعب بورسعيد» إعداد «ضياء الدين حسن القاضى»، فى مواجهتها للعدوان الثلاثى الذى بدأ يوم 29 أكتوبر 1956، وفى نفس اليوم كان قادة الجيش السورى يخططون للتضامن مع مصر بعمل ضخم.
كان قرار «إغراق السفن» تأكيدا لقراءة واعية لدروس التاريخ، فعن طريق القناة دخلت القوات الإنجليزية، وهزمت أحمد عرابى يوم 13 سبتمبر 1882 واحتلت مصر، بعد خيانة الفرنسى «ديلسيبس» الذى لم ينفذ وعده لعرابى بأنه لن يسمح باستخدام القناة لهذا الغرض، حسبما يذكر عرابى فى مذكراته.. كان الدرس الأكبر من خيانة ديلسيبس هو، أنه طالما بقيت القناة تحت السيطرة الأجنبية سيبقى استقلال مصر ناقصا وأمنها القومى مستباحا، فكان قرار تأميمها لتبقى سيادة مصرعليها. أما فى سوريا، ووفقا للكاتب الصحفى محمد حسنين هيكل فى كتابه «قصة السويس آخر المعارك فى عصر العمالقة»، فإن عددا من قادة الجيش السورى توجهوا إلى رئيس الجمهورية بالنيابة «ناظم القدسى»، يسألونه عما يجب فعله لمساعدة مصر.. كان الرئيس شكرى القوتلى فى زيارة إلى موسكو منذ يوم 30 أكتوبر.. يذكر هيكل: «كان القدسى يقيم فى فندق «أوريان بالاس» فى دمشق، وقابل قادة الجيش مرتديا «الروب دى شامبر» وسألهم عما يريدون، وحين سمع منهم فوجئوا بجوابه: «نحن وقعنا اتفاقا مع مصر ضد إسرائيل، ولنفرض أن هناك عوامل جديدة، أفليس الواجب أن ننتظر؟»، واقترح تأجيل أى قرار 48 ساعة، ردا على مطلب الضباط بتفعيل ميثاق الدفاع المشترك والقيادة المشتركة بين مصر وسوريا والأردن الذى تم توقيعه قبل العدوان بأيام قليلة.. كان المقدم «عبدالحميد السراج»، قائد الشعبة الثانية فى المخابرات العسكرية، هو أكثر المطالبين بالتفعيل.
خرج «السراج» من مقابلة «القدسى» مكتئبا، حسب روايته لهيكل، وعاد إلى مكتبه ليجد إشارة تخطره بظهور قطع بحرية أمام ميناءى اللاذقية وبانياس، وهو نهاية أحد خطوط الأنابيب التى تنقل بترول العراق إلى البحر المتوسط.. طرح «خط الأنابيب» نفسه على فكر «السراج» فدعا ضابط صديقه من لواء البادية وطلب إليه الذهاب لإيقاف عمل أجهزة اللاسلكى فى محطات الضخ الثلاث، بحجة أنها قد تعطى إشارة إلى القطع البحرية التى ظهرت أمام اللاذقية وبانياس، خشية أن يكون هناك ترتيب لإنزال على الشاطئ السورى، ونفذ الضابط المهمة.
استدعى صبرى العسلى، رئيس الوزراء «السراج»، وكان وزير الأشغال مجدالدين الجابرى موجودا، وحسب هيكل، فإن السراج قبل أن يجلس بادره «العسلى» بالقول، إن السفير الأمريكى كان موجودا، وقلق من توقف ضخ البترول نتيجة توقف محطات اللاسلكى، وأنه لو شعر الإنجليز أن شيئا حدث للخط سيقومون بعملية إنزال على المحطات وعلى الخطوط، فهل نقدر نحن على الإنجليز؟.. هل نقدر على الأمريكان؟.. رد «السراج» أنه فعلا أمر بتوقف محطات اللاسلكى مؤقتا بعد ظهور قطع بحرية، ويبحث عن موظفين سوريين يجيدون الإنجليزية ليجلسوا بجوار عمال الإشارة فى المحطات، ويتأكدوا أنها لا تبعث إشارات للقطع البحرية التى تظهر أمام الموانئ.. تدخل وزير الأشغال قائلا إنه يستطيع أن يجد فى الرى والبريد موظفين يحسنون الإنجليزية.. رحب السراج مشترطا أن يكونوا ممن يثق فيهم الجيش.
عاد السراج إلى مكتبه ليجد إشارة من قيادة الجيش بوضع لواء البادية تحت تصرف وزارة الداخلية ليتحول إلى قوة حراسة لخط الأنابيب، فبدأ يفكر فى مسار جذرى وهو وقف ضخ بترول العراق نهائيا عبر سوريا، فهو الذى تعتمد عليه بريطانيا عسكريا واقتصاديا.. فكر فى عملية نسف تؤدى إلى عطل كبير لا تكفى أسابيع لإصلاحه.. هكذا حسم «السراج» تفكيره، واستدعى صديقه الضابط مهندس المقدم «هيثم الأيوبى» وطرح عليه الفكرة، فرحب، لكنه قال إنها تحتاج إلى ثلاثة أطنان ديناميت، ووسائل نقل، وحراسة لتأمين المهمة.. استطاع السراج تدبير هذه الأشياء من مخازن الجيش عبر صديق له، وأمكن ترتيب ثلاث سيارات وقوة حراسة صغيرة.
قاد هيثم الأيوبى القافلة، وبدأ التنفيذ بنسف المحطة الأولى فى تدمر 3 نوفمبر الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، وفى الرابعة فجرا تم نسف الثانية، وفى السابعة صباحا تحولت المحطة الثالثة فى دير الزور التى تبعد عن دمشق 750 كيلومترا إلى حطام وأنقاض.. تلقى السراج إشارة باللاسلكى من «الأيوبى» بنجاح التنفيذ، فذهب إلى بيته لينام، لكنه فوجئ بمن يدق الباب عليه، وذهب إلى سراى الحكومة، ثم إلى مكتب نائب الرئيس ناظم القدسى الذى سأله عما جرى للمحطات فرد باختصار: «طارت..طارت».. سأله القدسى: «كيف طارت؟».. رد السراج: «نسفت من أساسها، ولا يمكن إصلاحها قبل شهور».
أدى الحدث إلى وقف بترول الشرق الأوسط كله عن أوروبا الغربية وبريطانيا، وبدأ الجنيه الإسترلينى أول وأكبر نزول له فى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية.. يؤكد هيكل: «هذا الفعل كان واحدا من أسباب فشل العدوان الثلاثى».
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة