منذ الخليقة وصيرورة العدم هى لغز الحياة الذى يحار فيها الإنسان فى صراعه بين الوجود والفناء، فهو يرتعد من الموت ارتعادا لمجرد التفكير فيه، ويِرتَدَعَ منه ارتداعا فى كل مرة يقترب منه، وعلى مر العصور كان لفضول الإنسان الفضل فى استكشاف المزيد من منازع الموت وأهواله، بل استطاع أن يوظف طاقة خياله ليخترع الأديان والأساطير والفلسفات لبعث الأمل والتخفيف من الخوف الماثل حول مصيره.
كان من بين ما تمنيت أن أحققه خلال رحلتى الأخيرة قبل الموت وأنا فى العقد الثامن من العمر أن أكتب كتابا أخيرا، بعنوان “أنين الصمت”، أسرد فيه تفاصيل خوض تجربة للتعرف والتقرب من الموت، والإعداد لتقبله كحقيقة واقعة، ومن ثم توديعه.
ولأننى أؤمن بأن لكل شىء صدى حتى الصمت، إما أن نتلقاه ضجيجا وإما أن نحسه شدوا أو أنينا، كان على أن أتحمل أنين هذه التجربة التى لابد لها أن تكون تجربة صامتة، ستحمل بالطبع الكثير من الأنين فى طياتها، وبالقطع لن تحمل أى أملا لأى أمل، وبالضرورة ستنتهى بوداع أليما لحياة لم نختارها، حياة أرغمنا عليها بكل حوافرها وروائعها ومآسيها.
كان لابد لخوض هذه التجربة مجبرا أن أتعرض للجدل حول مسألة الخلود والعدم فى رحلة الموت والخوف من المجهول، والخوض فيما كون الموت سقوط أبدى بلا نهاية، أم رحلة فريدة.
وكان لابد أيضا تأكيد أن الموت، من وجهة نظرى، هو أبدى لا حدود له، وليس إلا رحلة نحو العدم المطلق.
كان لابد لخوض هذه التجربة مجبرا أن أعيش، ولو فى الخيال معانات ألم فراق الحياة وتبعثر المكان والزمان وكل ماهو مقبض وحزين. ومجبرا أيضا سماع أنين الصمت، وما أكثره قابعا متربصا هنا وهناك.
وبعد تفكير عميق وطويل، قررت ألا أخوض هذه التجربة، وكم كنت سعيدا بذلك لأكون بعيدا عن مكابدة الموت وأحزانه ما استطعت فى الفترة القصيرة التى تبقت من حياتى.
ربما كان ذلك قرارا صحيحا، وربما كان خاطئا، وربما كان ليتركنى حائرا بين هاجس الموت الإنسانى وهاجسه الوجودي.
ومع ذلك يتشكك الفيلسوف الألمانى "آرثر شوبنهاور"، أن الموت ربما هو الهدف الحقيقى للحياة..؟
تم أضافة تعليقك سوف يظهر بعد المراجعة