أفاق الموسيقار داود حسنى من غفوته، وقال لأولاده إنه رأى رؤيا عجيبة وبدأ يحكى: «رأيت فيما يرى النائم أن عبده الحامولى استدعانى إلى جانبه، وطلب منى أن أمسك العود وأحاسبه على غنائه وأترجم ما يقول.. ثم أمسك العود لأولاده وقال لهم: هذا غناء الحامولى، وهذا غناء لى فى الحلم.. أشعر أننى وصلت، وأنتم تعرفون معنى كلامى فلا يأخذنكم الحزن من بعدى.. أما الرؤيا التى رأيتها فإنها تكشف عن روحى الغطاء بأنى وصلت إلى مصاف الخالدين».
كان «داود» يعيش أيامه الأخيرة، وعمره 67 عاما «مواليد 26 فبراير سنة 1870»، وعاصر عبده الحامولى 31 عاما «توفى الحامولى يوم 13 مايو 1901».. وقص لأبنائه ما رآه فى منامه قبل وفاته بأيام، حسبما يذكر فى مذكراته التى كتبها ابنه إبراهيم، وهى المذكرات النادرة التى يكشف الكاتب الفنان الراحل محمد حسان التيجانى عن سرها، ويعرض مقتطفات طويلة منها على صفحته «أنا المصرى».
يرى «حسان» أن إبداع «داود» الموسيقى الفذ يضعه فى مصاف عبقريات إبداع المصرى الخالص، وإخلاصه فى اكتشاف وتعهد وتدريب العديد ممن اشتغلوا بالغناء فى مصر مثل ليلى مراد وأسمهان وعلية فوزى ومحمد عبدالمطلب، يدل على تفرده ومصريته الخالصة».يؤكد «حسان» أنه يذكر هذا الرأى سواء كان «حسنى» عاش ومات يهوديا، أو تحول إلى الإسلام سرا، كما أشاع البعض قبل وفاته «يوم 10 ديسمبر، مثل هذا اليوم، 1937».. اللافت أن هذه الشائعة قيلت، بينما الثابت أنه دفن فى مقبرة اليهود القرائين بالبساتين.
تحمل رؤيا «حسنى» فى منامه، وحضور عبده الحامولى فيها مفتاحا لفهم بدايات تطور الموسيقى والغناء فى مصر فى عصرها الحديث..يذكر «قسطندى رزق» فى كتابه «الموسيقى الشرقية والغناء العربى»: «ما كاد يظهرعبده الحامولى فى عالم الغناء فى القاهرة حتى قرّبه الخديو إسماعيل إليه، لما ألفى فيه من عبقرية ورخامة صوت، وكان له من أكبر المشجعين على التصرف فى وضعه واشتقاقه، فأوفده فى الحال على حسابه الخاص إلى الآستانة ليقتبس عن الموسيقى التركية الغنية ما يروق له، ليختار من نغماتها ما يلائم الذوق المصرى، ويطابق الروح الشرقى، فأدمج فى الموسيقى العربية من النغمات التركية، النهوند، والحجاز كار، والعجم عشيران، وسائر الآهات، مما جعل الفن مدينا لعبده، وبالتالى لساكن الجنان الخديو إسماعيل الذى هيأ له جميع أسباب النجاح، وأطلق له العنان فى مجال الإصلاح حتى ألحقه بمعيته».
يذكر «حسان» فى قصة كشفه لمذكرات «حسنى»، أنه ذهب إلى أرملة المؤرخ الموسيقى الدؤوب، وأحد أهم جامعى التراث الموسيقى المصرى عبدالقادر صبرى لتقديم واجب العزاء فى وفاة زوجها.. يذكر: «فى منزلها بحدائق القبة كانت الصالة مليئة بأكوام أسطوانات وشرائط كاسيت، وشرائط الربع بوصة، وقليل جدا من الكتب والمجلات، وعرضت على شراء ما ينقصنى من التسجيلات التى أفنى الرجل عمره فى جمعها».. يؤكد حسان: «بعد انتقاء ما احتاجه، أحضرت السيدة عددا قليلا من أوراق المرحوم، من بينها كشكولان لونهما أخضر، وتطل من أحدهما قصاصة ورقية من إحدى المجلات القديمة للمطربة سعاد زكى.. قرأت بخط أخضر فوق الكشكول داود حسنى، تصفحت الكشكول فكانت المقدمة من الأستاذ عبدالقادر صبرى يحكى فيها تعارفه على ابنى داود حسنى، إبراهيم وكمال، وأن فى هذه الأوراق مذكرات الأستاذ داود التى كتبها عنه ابنه إبراهيم».
عاد «حسان» بالكنز الثمين، وظهر له أن أحدهما نسخة مكررة من الآخر.. كان الكشكول ثمانين صفحة من القطع المتوسط، تم تدوين المذكرات فيها على 74 صفحة بخط القلم الجاف الأزرق..يعلق حسان على كاتب المذكرات بأنه «استخدم الكثير من الجمل الكليشيهية المعتادة، وحاول إضفاء روح من البلاغة المدرسية، كذلك تدخله لإثبات شخصيته ككاتب إلا فى مواطن كان الحديث بصوت داود نفسه، وبالرغم من هذه الملاحظات يؤكد «حسان» أهمية المذكرات فى أنها «تبرز اعتزاز حسنى»، ومن ثم إبراهيم بالانتماء لمصر وللعروبة، وكذلك اعتزازه بعمله الفنى كموسيقى وحبه الشديد لزوجته الأولى التى ماتت فى عمر الثلاثين بعد إنجاب أربعة أولاد.
تقدم المذكرات حالة الود والصداقة مع الشيخ سيد درويش، بالرغم من التنافس العملى بينهما، والصداقة مع الشاعر أحمد رامى وعازف الكمان سامى الشوا وجميل عويس ومحمد القصبجى وأم كلثوم، والاقتصادى المصرى الفذ طلعت حرب، والزعيم سعد زغلول والشيخ محمد عبده.. يضيف حسان: «لا تخلو المذكرات من معاصرة داود لثورة 1919، واشتراكه فى المظاهرات ولقاءاته المتعددة برجال الثورة، بل ويحكى فى بعضها معاصرته لثورة عرابى ولقائه بالعديد من رجالها، ومنهم الوزير الشاعر محمود سامى البارودى».
يستوقفنا فى المذكرات قول داود وفقا لما كتبه ابنه إبراهيم: «دواد حسنى المتصوف بالجمال: عشقت الموسيقى منذ فجر الصبا فشغفنى الطرب، وعشت له وعبدت ربى فيه».. وقوله: «لا أخشى على الموسيقى العربية من القيام مادام هناك قرآن عربى أحكمت آياته بنغم عربى أصيل، ومادام المقرئ قائما، ومادام الربع مقاما فى أصوات الباعة، وفى أغانى الفلاحين، وأصحاب الحرف وأغانى البحارة والفلاحين والمنشدين».
ماذا أضافت هذه المذكرات من أسرار؟