لم يكن الكثير من المماليك إلا مصريين استهوتهم مصر كمستقر ومقام اختلطت طباعهم بها، وصاروا منها، وشاءت الظروف أن يتحولوا من مستخدمين فيها إلى حكام تحملوا مسئولية القرار وتسيس وتسيير الأحوال، وكانوا واحدة من جملة حقب السلطة والحكم، تركوا بصمة فى السياسة والعمارة والبناء والاقتصاد.
ترك المماليك نظام وقفى امتد لمساحة 130 ألف فدان أطيان زراعية، ممنوع بيعها، أو ضمها للدولة، بل محبوسة للصرف من عائدها على المساجد وتمهيد الطرق والخدمات العامة لرفع الأعباء الاقتصادية عن كاهل الدولة التى كانت تقترض من الوقف لإنعاش خزينتها إذا ما تأزمت.
وعرف سلاطين المماليك نظام الوقف كما عرفه، ما أدى إلى ازدهار الأوقاف، فوضع السلطان بيبرس تنظيماً جديداً للأوقاف اختلف بمقتضاه ولأول مرة مدلول لفظ الأحباس عن مدلول لفظ الأوقاف فى مصطلح الدواوين، وأدى ازدهار الأوقاف وكثرتها في العصر المملوكي إلى أن أصبحت معظم دور وحوانيت "محلات ومتاجر" ورباع "جمع ربع أى مول" مصر والقاهرة موقوفة، فضلاً عن ما يقرب من نصف مساحة الأراضى الزراعية، لذلك لعب نظام الوقف دوراً هاماً بارزاً فى الحياة الدينية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية في العصر المملوكى.
وفى عام 1517 اعتبرت مصر جزءا من الدولة العثمانية، وذلك بعد انتصار الجيش العثمانى بقيادة السلطان سليم الأول على القائد والسلطان المملوكى طومان باى، وإعلانه مصر ولاية عثمانية، وبذلك أصبحت ملزمة بدفع الجزية سنويا مقابل حمايتها.
وكانت تلك الجزية يحددها السلطان العثمانى، فعلى سبيل المثال فى عام 1866 أصدر السلطان فرمانا بزيادة الجزية التى يستوجب على الخديو إسماعيل دفعها من 376.000 جنيه إلى 720.000 جنيه، وذلك مقابل منحه لقب خديوى بدلا من والى، وكانت تلك الأموال يدفعها الحاكم ولا يسمح للحاكم السابق مغادرة مصر حتى يدفع ما عليه من غرامات.
وتوثق المصادر التاريخية نظام الأوقاف ممثلاً فى وثائق الوقف المحفوظة فى وزارة الأوقاف، ودار الوثائق القومية (مجموعة المحكمة الشرعية)، وفى بطريركية الاقباط الارثوذكس، وفى دار الكتب، وفى دير سانت كاترين، والتى تتخطى 800 وثيقة.
وساهمت الأوقاف، فى رعاية والصرف على المساجد والمستشفيات والمدارس والمكتبات والحانات "المحلات والمتاجر"، والفنادق والأسبلة والتكايا، وكذلك الإنفاق على التجهيزات العسكرية، برصد رأس المال ومنع بيعه والإنفاق من إيراداته في سبل الخير، دخلت مجالات غير تقليدية ولم تقصد فقط إشباع الاحتياجات الأساسية للفقراء والمساكين والمرضى وطلبة العلم، بل تشعبت أكثر نحو مراعاة حقوق الإنسان وحقوق الحيوان، واجتهدت نحو تطيب الأحاسيس ومراعاة المشاعر وتحسّبت لحفظ الكرامة ورفع الإيذاء وإرضاء طموحات المحرومين، مثل وقف الزبادى لشراء زبادى أتلفه الخادم حتى لا يؤذيه سيده، ووقف الكلاب الضالة والغرباء، وتسلية المريض وتزويج اليتيمة، وملابس الفقراء فى الأفراح.
وتكشف كتب تاريخية أنه في عام 1516 م/ 971هجريه استولى العثمانيون على مصر وأزالوا المماليك واستولوا على أوقاف المدارس والزوايا والمساجد وخدمات البلدية والمستشفيات وكانت تدار بالأوقاف ويصرف عليها منها.
ومن المصادر التى وثقت سياسة المماليك الوقفية لتحقيق العدالة الاجتماعية وما تعرضت له من نهب، كتاب "الأوقاف والحياة الاجتماعية في مصر (عصر سلاطين المماليك 648-923هـ / 1250-1517م).
وتتمثل تلك الأوقاف في قرى ومنشآت، خصصت للصرف والإنفاق على الحرمين، وماله صلة بهما، ذكرها المقريزي في خططه: بلغت (130) ألف فدان.
وذكر ابن تغري في حوادث سنة 821 (14/ 74)، عن وقف الملك المظفر بيبرس على الجامع الحاكمى، والذى أوقف على المعاهد والسواقى والعقار، وعن أوقاف مملوكية أخرى ذكرت المصادر، توظيف العمال والتعاون على حفر الآبار وبناء المستشفيات ومعاهد الطب، وهو ما يعرف بنظام البيمارستانات السابق.
وشهدت الأوقاف، استنزاف وسرقات فى عهود متتالية تحت العباءة العثمانلية، ورغم ذلك استمر الوقف في المجال الدينى والتعليمى وغيرهما، والاستثمار لمصلحتهما ووقف القرى لأجلهما، وقرّر فيه دروس الفقه والحديث والتفسير والطّبّ.
وحيال رغبة مصر استعادة كرامة الوقف، نظرا لشتات واستباحة الوقف، وتغيير شروط الواقفين، صدر قرار فى عام 1913، بإنشاء ديوان الأوقاف لأوَّل مرَّةٍ، وقانون خاص به يشمل الطلب من نظَّار الأوقاف الخيرية بيانٌ عن أعيان الأوقاف الجارية فى نظارتهم وما يتجمَّع من إِيرادها ووجوه إِنفاقها، وما يفضلُ بعد ذلك منها لمراجعتها، وأن يُحالَ أمرُ من يُخالِفُ منهم شرطَ الواقفِ إلى المحكمة الشرعية، حتى إذا ثبتَ للقاضي اختلاسهُ، عزلهُ وولىّ بدلاً منهُ؛ وأن تتكفَّل الحكومة بنفقات الديوان من ماهيَّات المستخدمين وغيرها، لأنَّ شرطَ الواقفين يقضي بأن لا يُنفَقَ شيءٌ في أي وجهٍ كان ممَّا لن يُعيِّنهُ الواقفُ، واستمرَّ الديوانُ في مراجعة المحاسبات الواردة من نظَّار الأُوقاف لسنة 1858 م إِذ أحيل إليه بعضُ أوقافٍ ذات إِيراد فقضت الحاجةُ حينذاك بإِنشاءِ خزانةٍ خاصَّةٍ بهِ.
وفى سنة 1860 م صدرَ أمر عالٍ جاءَ فيهِ: أنَّ نفقاتِ الديون تبلغ 47702 قرشاً يؤدّي ديوانُ الأوقاف منها 19234 قرشاً ونصف قرش مما يخصصه على إيرادات الأوقاف التى يبلغ إيرادها 98896 قرشاً.
وتعانى الأصول الوقفية الأن من إهمال يدفعنا للبحث عن أسبابه، و هل هذا القصور يرجع إلى النظام وعجزه عن تحقيق الاستدامة التى يهدف إليها، وإذا عاشت هذه المنشئات لفترات كبيرة من الازدهار والرخاء، فهل يرجع ذلك إلى الطريقة التى كانت تدار بواسطتها، أو إلى قدرة النظام الوقفى القديم على التعاطى بمرونة مع متغيرات العصر.
فى الدولة المملوكية انتشرت الأوقاف انتشاراً عظيماً، حتى شملت أراضي كثيرة اعتنى المماليك بالأوقاف وأكثروا منها، ونتيجة لذلك خففت الأوقاف على الدولة عبئاً كبيراً من مرتبات أئمة المساجد، والمصالح الخاصة بتلك المساجد.
كذلك أهتم سلاطين المماليك بالوقف على الحرمين اهتماماً كبيراً، ويدل على ذلك ما أنفقوه وأوقفوه على هذه البقاع المقدسة، أو ما يتصل بهما من خدمات، أو أماكن، وكذلك تسهيل الطرق الموصلة إليهما، وما يحتاجانه من خدمات وحماية.
وفى دعوى قضائية تم تحريرها العام الماضى تطالب باسترجاع الأموال المصرية، تقدم المحامى حميدو جميل، بدعوى قضائية تلزم الحكومة المصرية، بمقاضاة الحكومة التركية، من أجل رد الأموال التى كانت تحصل عليها تركيا ممثلة فى الدولة العثمانية.
وكشفت الدعوى المقدمة أمام محكمة القضاء الإدارى، أن مصر استمرت فى دفع الجزية للدولة العثمانية بالخطأ فى الفترة من عام 1915 حتى عام 1955، أى "40عاما"، وبالتحديد بلغ إجمالى ما تم دفعه بالجنيهات الذهبية 23 مليونا و174 ألفا و984 جنيها ذهبا.