"أرجو أن تأخذ قلبى بعد موتى، وتضعه فى كئوس، وتحمله إلى بارما حيث حبيبتى مارى لويز، وأرجو أن تخبرها بأنى أحببتها، وأن حبى لها لم ينقطع، وأخبرها بما رأيت، وجميع ما يختص بمركزى ومودتى"، تنسب هذه الرسالة إلى نابليون بونابرت، ويقال إنه قاله إلى طبيبه قبل موته.. لكن من هى مارى لويز؟
مارى لويز، واحدة من أشهر النساء الأوروبيات، تزوجت نابليون بونابرت، إمبراطور فرنسا وأنجبت له ولى العهد، لكنه انصرف عنها إلى حروبه فخانته.. فما الذى حدث بالضبط؟
تقول موسوعة (قصة الحضارة) لـ ويل ديورانت فى الجزء المتعلق بـ عصر نابليون "وعندما أخبر نابليون زوجته جوزفين أخيراً بأن عليهما أن ينفصلا وهنت وغابت عن الوعى لعدة دقائق، فحملها نابليون إلى غرفتها واستدعى طبيبه جان - نيقولا كورفيزار دى مارت وطلب مساعدة هورتينز لتهدئة أمها، وظلت جوزفين طوال أسبوع مصرّة على رفض الطلاق، وصل يوجين من إيطاليا وأقنع أمه بالموافقة، فطيب نابليون خاطرها بكل وسيلة وقال لها: سأظل على حبّك دائماً لكن السياسة لا قلب لها، ففى السياسة لا مجال إلا للعقل، وقال لها إنها ستظل دائما محتفظة بلقب سيدة القصر الملكى وملحقاته ولقب إمبراطورة وبراتب سنوى كبير، وأكد لأبنائها أنه سيظل دائما وحتى آخر حياته كأب محب·
وفى ديسمبر 1809 أصدر مجلس الشيوخ، بعد أن سمع رغبة كل من الإمبراطور والإمبراطورة فى الطلاق - مرسوم الطلاق، وفى 21 يناير 1810 أُعلن رئيس أساقفة باريس فصل عُرى زواجهما، وتساءل عدد كبير من الكاثوليك عن مدى شرعية هذا الطلاق، ولم يُوافق معظم سكان فرنسا على هذا الانفصال، وتنبأ كثيرون أنه من الآن فصاعداً سيتخلى الحظ الحسن عن نابليون، ذلك الحظ الحسن الذى كان يتبعه دائما كظله ·
لقد طغت السياسة على الحب وراح نابليون يبحث عن شريكة لحياته ليس فقط على أمل أن تكون أماً (لولى عهده) وإنما أيضاً ليكوّن عن طريقها بعض الروابط والصلات التى تُعين على تحقيق السلامة لفرنسا، وتشد من أزر حكمه·
وقبل إفضائه لجوزفين برغبته فى الطلاق أرسل نابليون بتعليمات إلى كولينكور سفيره فى (بطرسبرج) أن يقدم طلباً رسمياً لإسكندر طالباً يد أخته البالغة من العمر ستة عشر عاماً - أنَّا بافلوفا وكان القيصر يعلم أن أمه التى كانت تطلق على نابليون اسم الملحد لن توافق أبداً على مثل هذا الارتباط فأرجأ الإجابة على الطلب أملاً فى أن يحصل من نابليون على مقابل مُمثَّل فى حصوله على بعض المناطق (الأخرى) فى بولندا، لكن نابليون بعد أن نفد صبره لطول المفاوضات فى هذا الأمر ولخوفه أيضاً من الرفض - أرسل يوعز إلى مترنيخ أنَّ النمسا ستتتلقّى اقتراحاً لطيفاً بشأن الأرشيدوقة (الأميرة) مارى لويز وعارض كامباسير الخطة متنبئاً أن هذا الارتباط سيؤدى إلى إنهاء التحالف الروسى مع فرنسا وسيؤدى للحرب
ولم تكن مارى لويز البالغة من العمر ثمانية عشر عاما - جميلة، لكن كان يكفى نابليون أن عينيها زرقاوتان، وخديها متوردان وشعرها كستنائى وطبعها هادئ وذوقها بسيط، وكانت كل الأدلة تؤكد عذريتها وخصوبتها، وقد تلقت قدراً طيباً من التعليم وتعرف عدة لغات وكانت بارعة فى الموسيقى والرسم، وقد تعلمت منذ طفولتها أن تكره طالب يدها (نابليون) باعتباره شريراً بل أكثر أهل أوروبا امتلاء بالشر، لكنها تعلمت أيضاً أن الأميرة بضاعة سياسية يرتبط فهمها للرجال بصلاح الدولة، ومع هذا فلابد أن هذا الغول سيئ السمعة (نابليون) يمثل تغييرا مثيراً لفتاة محكومة تخضع لإشراف دقيق طال شوقها لعالم أكثر رحابة·
وعلى هذا ففى 11 مارس سنة 1810، وفى فيينا تم زواجها رسمياً من نابليون الذى لم يكن حاضراً وإنما مثله المارشال بيرثييه وتحرك ركب الأميرة المكوّن من ثلاث وثمانين عربة ومركبة طوال خمسة عشر نهارا وليلة مصحوبة بالاحتفالات والترحيبات ليصل الركب إلى كومبيين فى 2 مارس، لقد كان موكبها كموكب زفاف مارى أنطوانيت فى سنة 1770، وكان نابليون قد رتّب أموره للقائها فى كومبيين هذه لكن - فضولاً منه أو لطفاً - انطلق ليقابلها مرحباً بالقرب من كورسيل وعندما رآها، لكن دعنا نتركه هو يروى لنا ما حدث: لقد خرجت من المركبة بسرعة وقبّلت مارى لويز، لقد كانت الطفلة الساذجة قد حفظت عن ظهر قلب حديثاً طويلاً كان عليها أن تردده على مسامعى وهى راكعة، وكنت قد سألتُ مترنيخ وأسقف نانت عمّا إذا كان يمكننى الليلة أن أكون تحت سقف واحد مع مارى لويز فأزاحوا كل شك علق بى وأكدا أنها الآن الإمبراطورة، وليس الأميرة (الأرشيدوقة)، وعكفتُ عليها فى غرفة نومها لا أبرحها إلاّ إلى المكتبة، وسألتها عمّا قالوه لها عندما غادرت فيينا، فأجابتنى بسذاجة شديدة أن أباها وفراو لاتسانسكى قد وجهاها بأن قالا لها: حالما تصبحين مع الإمبراطور ولا ثالث معكما عليك أن تفعلى كل ما يطلبه منك تماماً، عليك أن توافقى على كل شيء يطلبه منك لقد كانت مبهجة·
فى أول أبريل أصبح الاثنان زوجين وفقاً للإجرادات المدنية وذلك فى سان كلود وفى اليوم التالى أصبح زواجاً دينياً فى الصالة الكبرى فى اللوفر ، ورفض كل الكاردينالات تقريبا حضور المراسم الدينية للزواج على أساس أن البابا لم يلغ زواج جوزفين، فطردهم نابليون الى الأقاليم (المحافظات أو الدوائر) لكن هذا لم يعكر صفوه فقد كان مغموراً بالسعادة من نواح أخرى· لقد وجد عروسه باعثة على المسرّة حسياً واجتماعياً - متواضعة ومطيعة وكريمة ورقيقة· إنها لم تعرف أبداً أن تحبه لكنها كانت رفيقة جذابة· وهى كإمبراطورة لم تحقق جماهيرية كالتى حققتها جوزفين، لكن صارت مقبولة كرمز لانتصار فرنسا على ملكيات أوروبا العدوانية·
ولم ينس نابليون جوزفين فكان يزورها تباعاً فى مقرها حتى أن مارى بدأت فى الاستياء، فاضطر للتوقف عن زيارتها لكنه راح يرسل لها خطابات دافئة، جميعها تقريبا تبدأ بعبارة يا حُبّى، وقد أجابت جوزفين على أحد هذه الخطابات من نافار فى نورماندى فى 12 أبريل سنة 1810 "ألف ألف شكر لك لأنك لم تنسنى، لقد أحضر إلى ابنى خطابك تواً، لقد اعترانى الضعف عند قراءته، وأى ضعف!·· فلم يكن به أى كلمة إلا وجعلتنى أبكى، لكنها كانت دموعاً حلوة، لقد كتبتُ إليك عند مغادرة مقر إقامتى فى باريس، وبعد مغادرتنى رغبت كثيراً فى الكتابة إليك أكثر من مرة، لكننى أحسست بأسباب سكوتك وخشيت أن أكون مزعجة، لكن سعيداً، كن سعيداً فأنت تستحق السعادة، إننى أحدّثك بكل قلبى، لقد أعطيتنى أيضاً نصيبى من السعادة، وهو نصيب أُحس به إحساساً قويًا، وداعاً يا صديقى، وأشكرك بكل الحب فسأحبك دائما.
وراحت جوزفين تُسلى نفسها بإشباع هوايتها فى ارتداء الملابس والحُلى واستقبال الضيوف، وكان نابليون قد اعتمد لها ثلاثة ملايين فرنك سنوياً لكنها كانت تنفق أربعة ملايين، وبعد وفاتها فى سنة 1814، لاحقته بعض فواتير مُشترواتها التى لم تُدفع فى إلبا، لقد جمعت جوزفين فى مقر إقامتها أعمالاً فنية كثيرة هيأت لها صالة عرض وكانت تُنفق على الولائم ببذخ، وكانت قيمة تكاليف دعواتها تلى مباشرة تكاليف زوجة نابليون (مارى لويز) وراحت تاليا الأميرة الأربعين لشيماى، تزور جوزفين ويتذكران معاً أيام حكومة الإدارة ونفوذهما القوى الذى جعلهما كملكتين، وزارتها الكونتيسة فالفسكا فاستقبلتها جوزفين بحفاوة وراحتا معاً يندبن حظمها لضياع حبيبهما (نابليون)·
لقد قضى نابليون عامين كان فيهما سعيداً وفى سلام نسبى، فقد وسَّعت معاهدة شونبرون مملكته وأثرت خزانته وفتحت شهيته، فقد ضمّ إلى ملكه الولايات الباباوية (71 مايو 9081) وأعاد أخاه جوزيف (يوسف) إلى عرشه فى مدريد، وفى سنة 0181 وقّعت السويد - التى طال عدواؤها له - معاهدة سلام مع فرنسا وانضمت للحصار القارى المضاد (المقصود منع التعامل مع البضائع البريطانية) وفى شهر يونيو قبلت - بناء على إلحاحه - أن يكون وريثاً للعرش السويدي· وفى ديسمبر ابتلع هامبورج وبريمن ولوبك Lubeck وبيرج وأولدنبورج Oldenburg وضمها للإمبراطورية الفرنسية· وأدت رغبته الشديدة فى اغلاق كل موانئ القارة الأوروبية فى وجه التجارة البريطانية إلى أن أصبح فى نظر أعدائه غازياً نَهِماً لا يشبع يجمع الديون لأرباب الحقد والحسد·
كانت مارى لويز حاملاً وكان الإمبراطور السعيد يَعُد الأيام لوضعها هذا المولود، وعندما اقترب الحدث أحاطه بكل الطقوس الاحتفالية ذوات المهابة التى كانت تصاحب، تقليدياً، ميلاد طفل من البوربون، فجرى الإعلان إنه إن كان المولود طفلة فستسمع واحداً وعشرين طلقة مدفع تحية للمولودة أما إن كان المولود ذكراً فستستمر الطلقات إلى مائة وواحد، وكانت عملية الوضع شاقة جدا، فقد (أراد) الجنين أن يأتى للعالم بقدميه أولا، وقال الدكتور كورفيزار لنابليون إنه إما أن يضحى بحياة الأم أو بحياة الوليد، فقيل له أن ينقذ الأم مهما كان الأمر، واستخدم طبيب آخر أدوات ليعكس وضع الجني، وأصبحت مارى لعدة دقائق قريبة من الموت، وأخيراً (وافق) الجنين على الظهور برأسه أولاً، وعاش الطفل والأم فى 2 مارس1811، ودوَّت مائة طلقة وطلقة معلنة لباريس ميلاد ذكر، وانتقل الخبر سريعاً فى سائر أنحاء فرنسا، ولم يكن فى أوروبا كثيرون يستكثرون على الإمبراطور هذه السعادة· فقد أرسل كل حكام أوروبا تهانيهم للأب الذى طال انتظاره لوليد.
بينم يقول كتاب "الحب فى التاريخ" لـ سلامة موسى "جاءت سنة ١٨١٢، وبدأ حملته المشئومة على روسيا، وفى ذلك العام عرفت مارى لويز الكونت نيبرج، وكان نمسويًّا، وعدوًّا لدودًا لنابليون ولجميع الفرنسيين، جُرح فى إحدى المعارك، ففقد إحدى عينيه، وتأثر وجهه بندوب الجرح، فكان يخفى عينه وهذه الندوب بعصابة سوداء، وكان يمت إلى أسرة نبيلة فى النمسا، وكان شجاعًا مقدامًا، يجيد البراز ويفهم الأساليب السياسية، ويعمل بعقله وقلبه فى أن يعكس على نابليون أغراضه. وكان مع ما أصاب وجهه من التشويه، يجذب إليه النساء بحلاوة حديثه، وشرف سمته، ونبالة حركاته.
ثم كانت سنة 1814 عندما ترك نابليون السياسة والحروب، وذهب إلى جزيرة إلبا كأنها منفى اختياري؛ فقد رأى الساسة النمسويون أن زمان التضحية بفتاتهم قد انتهى، وعقدوا النية على ألَّا ترجع مارى لويز إلى زوجها ثانيًا، وذهبت مارى لويز إلى فينا، ولم ترَ نابليون بعد ذلك.