القطة الصغيرة.. اقرأ أول قصة نشرها الدكتور مصطفى محمود سنة 1947

الجمعة، 27 ديسمبر 2019 05:00 م
القطة الصغيرة.. اقرأ أول قصة نشرها الدكتور مصطفى محمود سنة 1947 الدكتور مصطفى محمود
كتب أحمد إبراهيم الشريف

مشاركة

اضف تعليقاً واقرأ تعليقات القراء
تمر اليوم ذكرى ميلاد الدكتور مصطفى محمود، الذى ولد فى 27 ديسمبر من عام 1921، والذى حقق حضورا ملحوظا فى الثقافة المصرية على مستويات عدة منها الكتابة  الأدبية والصحفية، وكذلك على مستوى الإعلام حيث حقق برنامجه "العلم والإيمان" الذى استمر عرضه سنوات طويلة، نجاحا كبيرا، لكن فيما يتعلق بالأدب ما أول قصة كتبها "مصطفى محمود".
 
أول قصة نشرت لـ مصطفى محمود كانت بعنوان "القطة الصغيرة" فى مجلة الرسالة  العدد 731، بتاريخ:  7 من شهر يوليو من عام 1947، وتقول:
أرسلت القطة الصغيرة مواء ضعيفاً وهي تتنقل بين الكراسي وتتمسح بالأرجل وتتلقف الفتات المتناثر تحت الموائد، فقد كان اليوم يمثل وليمتها الأسبوعية الفاخرة، فالكازينو النيلى الجميل كان عامرا زاخرا برواده شأنه دائماً فى ليالى الأحد، والفضلات كانت ترى هنا وهناك فى كثرة ووفرة. فأقبلت عليها تلتهمها في شهية ونهم حتى أتخمها الشبع فتكاسلت في مشيتها تداعب الأرجل وتتسمع إلى أحاديث الناس وترقب جموعهم العديدة فيفضول، وطال مكثها تحت إحدى الموائد دون أن تظفر بعناية أو اهتمام أو حتى بلقمة صغيرة تلقى عفوا فرفعت عينها الخضراوين لترقب ما يجري على هذه المائدة الغريبة:
 
كان سطح المائدة نظيفا خاليا إلا من فناجين للقهوة وحقيبة من الجلد وقد جلس إليها رجلان قد خيم على وجهيهما العبوس وبدت عليهما سيما، رجال المال والأعمال، وأنشآ يتبادلان حديثا جديا، قال الأول وهو يعض شفتيه.
- إن كرم إسحق قد قدم للمناقصة بسعر خمسة قروش ومليم للقطعة.
- ومليم.
- سيفوز بها ما في ذلك شك.
- وحليم سمعان.
- خمسة قروش وأربعة مليمات.
- عجيب...  لست أدري كيف يفيد كرم اسحق من هذا المشروع بهذا السعر الضئيل.
- خامات الجيش.
- فعلا...  خامات الجيش.
- لن يقل مكسبه الصافي عن خمسة آلاف جنيه.
- ونحن نبيت ونصحو على خمسمائة جنيه في الشهر.
- لقد فعلت كل ما بوسعي.
- والنتيجة أننا لا زلنا نحيا كمتسولي التجار.
- إن مفاجأة كرم اسحق لم تكن في حسابي.
- عليه اللعنة.
وهنا رشف الرجل الأول رشفة من القهوة ثم أبعد الفنجان قائلا.
- قهوة رديئة.
- ومع ذلك فالمكان مزدحم...  والإيراد حسن.
- مشروع ناجح...  لقد فكرت فيه من قبل، وكان في نيتي أن أهيئ فيه حماما للسباحة فإن هذا يدر أرباحا حسنة في الصيف حيث يقل مرتاده في حر النهار.
- وهو يصلح (كباتيناج) في أمسيات الشتاء الباردة.
- أو (كباريه).
- إن المكان صالح للاستغلال في كل أوقات السنة.
وسكت الرجل الأول ثم عاد يداعب مقبض الحقيبة الجلدية وقال متململا.
- إن الجو راكد.
- والمكان مزدحم.
- وهذه الحيوانات القذرة لا تنقطععن التسمح بالأرجل. يا للقذارة.
وركل القطعة الصغيرة في قسوة فولت هاربة ثم هب في ملل ودفع الحساب واختفى مع زميله.
وراحت القطعة تمسح رأسها المرضوض في الأرض وتموء في ألم ثم لجأت إلى مكان متطرف منعزل من الكازينو حيث يجلس على مائدة صغيرة فتى وفتاة ورفعت إليها رأسا مريضا فألقى إليها الشاب بقطعة من الخبز وراح يدللها ويداعبها بقدمه...  فارتاحت القطة إلى هذا الحنان ولذ لها أن تستمع إلى الحديث الخافت وترقب العيون المتناجية. قال الشاب.
- إن الجو قطعة من السحر.
- حقا... ؟ إذن لن نجلس هنا مرة أخرى.
- لماذا.
- لأنك تذوب في سحر الجو وتنساني.
- أيتها الحبيبة أنسيت أنك جزء من هذا السحر.
- جزء.
- بل كل هذا السحر.
- إن حبك على شفتيك دائماً.
- إن قلبي لا يسعه ولذلك يفيض على شفتي.
- ألا تخونك شاعريتك أبدا.
- إنها ليست شاعرية بل شعور والشعور الصادق لا يخون، ولمعت عينا الشاب وهو يتكلم ثم رفع كأس البيرة ورشف منها رشفة طويلة ثم عاد يقول.
- إن هذهالبيرة جميلة...  جميلة كشفتيك.
- بودي لو أعرف كم من ألوان البيرة تتذوق شفتاك.
- مهما تذوقت فأنت اللون الوحيد الذي يسكرني.
- إنك دائما تجيد الكلام...  إني أحبك...  ولكني أخشى على ثروتك التي تتبدد في سبيلي.
- أيتها الحبيبة...  دعي شئون المال...  وهل يذكر المال والجمال معا...  إن المال هو العبد الذي يجود بكل شيء...  والجمال هو السيد الذي يرخص في سبيله كل شيء...  والحب...  الحب...  هو النافذة الوحيدة التي يطل مها الإنسان على الجمال...  إني أدفع مالي وروحي ونفسي لتظل هذه النافذة مفتوحة أمامي إلى الأبد.
- أمين!
- بثينة!
وتلامست الأيدي واقترب الوجهان وامتزجت العطور الغالية في لحظة من الحنان الغامر فانسحبت القطة الصغيرة في سكون بعد أن أدركت أن هذين المخلوقين في حالة لا تسمح لهما بالالتفات إلى أي شيء...  وسارت تتثاءب وتتمطى بين الموائد، ثم اجتذب انتباهها مائدة يجلس عليها شيخان قد ملأت وجهيهما التجاعيد وألقت عليهما الشيخوخة ظل من الهدوء والوقار...  فجلست غير بعيدة ترقب ما يدور بينهما وتتبع الحديث دون أن تفهم شيئا.
قال الشيخ الأول
- لقد رسب محمد في الحساب...  لا أدري متى يلتفت هذا الولد إلى دروسه...  لقد يئست من إصلاحه.
- إن أولاد هذا الزمن جميعهم على شاكلته...  ولهم العذر، إن مباهج هذا العصر وشواغله أكثر مما كان في أيامنا.
- أيامنا...  ما أجملها...  لم يكن هناك من المباهج إلا الخيال الظل...  واللونابارك.
- والموالد...  هل نسيت أنك كنت من هواة الموالد.
- حقا...  وأذكر أنك وشيت بي يوما أيها اللعين... وكانت (علقة) لازلت أذكر أوجاعها.
- أرأيت أن ابنك له عذره.
- ولكن هذا الكلب لا يصلي!
- ومن يصلي الآن غيرنا؟
- وهو لا يفتأ يجادلني في الجنة والنار.
- إن الحرية تؤدي إلى الحرية.
- ماذا تعني؟
- فلسفة العجائز.
- يعلم الله إلام نسير.
- إن العالم بخير...  وكفى...  أما نحن فنسير إلى القبر.
- إلى القبر؟
- نعم...  أكنت تظن أنك تسير إلى (لونابارك) آخر.
- لا...  إنه القبر أيضا...  من يدري فقد يكون مكانا طيبا.
- إنه راحة على أي حال.
- راحة.
واستبدت بالشيخ سبحة فلسفية...  فأرسل نظره إلى الأفق البعيد...  ثم أوغل في التفكير... وثقلت أجفانه... فمال برأسه ونام... شأن العجائز ينامون في كل مكان... ونظرت القطة إلى سكونه وأنفاسه البطيئة... ثم انسحبت في اشمئزاز وهي لا تدري ما شأن هؤلاء الأموات بهذا المكان... وأدارت رأسها فوجدت أن الكازينو قد خلا تقريبا إلا من أشباح قليلة متناثرة. ومن هذه الأشباح... رجل جلس منفردا في نهاية المكان وهو يكتب ثم يمزق ما يكتب... بأصابع عصبية ثائرة... فاقتربت منه في حذر ثم لمست قدمه... فانتفض غاضبا ودفعا بعيداً في قسوة... وعاد يكتب ويمزق..  وتناثرت بعض القصاصات تحت مصباح منعزل... فاقتربت القطة تتذوقها وتقلبها... وتتأمل الخطوط السوداء العجيبة التي تملؤها... وقرأت بلا وعي أو فهم
 
(أن الحياة التي أحياها... خاوية...  باردة...  مظلمة...  إني لا أجد نورا ضعيفا أسير فيه...  ولا أشعر بلذة أعيش من أجلها...  ولا بمخلوق واحد يهمني أمره...  فالناس تتجنبني وأنا أتجنبهم...  وقد أسمعهم يهتفون (ما أجمل هذا) فأدير عيني فلا ألمس فيما يشاهدون جمالا...  فأدرك أنني ميت في عالم حي، وأشعر بالعذاب والنقص والحرمان وألوى وجهي لأنتحر...  ثم أعود فأجبن وأتردد وأرجع أملا أن أعيش كما يعيش الناس. ولكني الآن سأختار المكان الذي يناسبني...  نعم سأنتحر...  لن أتردد هذه المرة...  بل إني لأشعر أنني قد مت من زمن طويل وأننيأسير كالآلة الصماء...  فماذا يضيرني إذا أوقفت هذه الآلة البغيضة...  لن أشعر بأي شيء أكثر مما أشعر به...  نعم سأنتحر...  سأنتحر هنا في هذا البحر الساكن الداكن.. ).
 
وانتهت القصاصة عند هذه الكلمات ولم تجد القطة العابثة أي شيء يثير اهتمامها في هذه الأوراق الممزقة فغادرتها وهي ترمق الرجل التعس الأحمر العينين وهو يغادر المائدة ويسير إلى الخارج في عزم وتصميم...  ولم تعرف أين ذهب فأمره لم يكن يهمه في قليل أو كثير.
 
وأدارت القطة عينها مرة أخرى في المكان فوجدت أنه قد خلا إلا من جماعة الندل والخدم...  وهؤلاء لم يكونوا يوما على علاقة طيبة معها...  فآثرت الاكتفاء بهذه السهرة الممتعة وولت وجهها شطر بيتها الدافئ اللين.
 
وفي الطريق شاهدت رجلا نحيلا ضئيلا يجلس في ركن مظلم، ودهشت عندما وجدته يلقى إليها بقطع كبيرة من الخبز واللحم. ولكنها لم تجد غضاضة في أن تنتقي اللحم وتترك الخبز وراحت تدور حول قدميه وقد رفعت ذيلها في سرور...  ثم انطلقت تموء حينما وجدته يقوم ويتركها...  ولكنه كان في نفسه يحفظ لها جميلا كبيرا فقد أوحت له في هذه الجلسة الهادئة بقصة لم يكن يحلم بها...  ورأى الحياة من عينيها كالكرة المضاءة تدور حول محورها...  وقد راح كل إنسان يرى منها وجها لا يراه الآخر...  شاهد في هذه الساعات القليلة ما كان يحتاج لسنين ليفهمه...  شاهد نظرات الناس إلى الحياة...  وقد تباينت واختلفت، وكأن كلا منهم يحيا في عالم من صنعه ومن خلقه.






مشاركة






الرجوع الى أعلى الصفحة